TOP

جريدة المدى > عام > رحلة إلى ديوانية (النفّري)

رحلة إلى ديوانية (النفّري)

نشر في: 24 نوفمبر, 2024: 12:03 ص

زهير الجزائري
أعود للمدينة فأتيه بين ذاكرة مثقوبة ومدينة حاضرةً تنفينا وتنفي ماضيها. لا تعطيني هذه المدينة مشهداً للدخول اليها. قبل أكثر خمسين عاما أرسلتني مجلّة (الإذاعة والتلفزيون) في رحلة لتتبع الحركة الثقافية الناشطة في المحافظات. كما فعلت لاحقاً وصلت المدينة دون تحضير وبدأت اتعرف عليها دون دليل. تعرفت آنذاك على (ياسين بربن) وهو يدير المسرح الفلاحي المتجول في المدينة. نزل من الطابق الأول من مقر الجمعيات الفلاحية و فتح لي الباب وهو عار تماماً. قال لي بأن الفلاحين يحبون الضحك. في بالهم السلطة، سلطة الإقطاعي أو سلطة السلطة. الضحك هو سلاح الفلاح في مواجهة السلطة. المسافة بين المتفرج والمسرح تصبح مليئة بالهواء حين يضحكون.
في مقهى على النهر بالصوب الصغير تعرفت على الفنان التشكيلي (رسمي الخفاجي). عبره تعرفت على الشاعرين علي الشيباني وكاظم إسماعيل الكاطع. تحدثنا بوضوح. البعث قدّم آنذاك علائم تغير للتخفيف من بشاعة صورته عند الناس. لكن الريبةً لم تغادرنا. كلنا اعتصمنا بالصمت حين دخل على الحديث مثقفون بعثيون صاروا دون مقدمات ديوك الجلسة.
بعد خمسين عاماً فقدت البيت الشعبي الذي ضمّ المسرح الفلاحي، اختفى المقهى الذي ناقشنا فيه النشاط الثقافي في زمن الجبهة، باحة البيت الذي أكلنا فيه السمك. النهر الذي يطل عليه المقهى صار مجرد صدفة. ليس لي في المدينة ما أتذكره.
الفكر بديلا عن الشعر
أدباء الديوانية خالفوا المألوف من المهرجانات الشعرية وأرادوا لمدينتهم أن تكون حاضنة للقاء فكري فدعوا الأكاديميين لمناقشات جادة عن إبن مدينتهم (عبد الجبار النفري). كل البحوث ركزت على العلاقة العمودية بين المتصوف وربه. الفكرة تتعدي عند الصوفيين إرادة الإنسان فتنسب كل الأفعال، بما فيها من طاعة و معصية، إلى الخالق. لا يحتاج الصوفي إلى المؤسسة الدينية لأن العلاقة عمودية ومباشرة بينه وبين الله، بل إن الحلول يجعل الإثنين واحداً: الله في جبتي! وحين يقول الصوفي (أوقفني)، سيعنى وقف الحياة السوية، بما فيها العمل، للإصغاء لصوت الرب وقد حلّ داخل الإنسان.
كما جيلي أحببت المتصوفة في مراهقتي الثقافية. نحن الذي عشنا مجازر 1963، تفهّمنا مأساة الحلاج، لأننا شهدنا الموت تحت التعذيب دفاعاً عن الفكرة. مأساة الحلاج التي مسّرحها الشاعر المصري (صلاح عبد الصبور) كانت مأساتنا. أحببنا الحلاج وشعره، و منه تعرّفنا على النفّري.
كنت أقضي وقتاً طويلا في مكتبة الجامعة في الوزيرية. أقرا الحلاج و النفّري واستعيد القراءة مرات ومرات كأنني دخلت دغلاً من اللغة. أزيح أغصان الكلمات عن بصيرتي لأفك أقفال اللغة. غموضها يغريني. أدخل الدغل فأتيه فتزيد لهفتي للتحدي بيقين أن الطرف الثاني المطل على الحياة سيأتي في النهاية. لغة المتصوفة بلا صور ولا تشبيهات، ترفض المعرفة بالمنطق، أي مقارنة الشيء بما يشابهه أو بما يناقضه. لغة تتجه إلى الله خالق الأشياء الذي يرفض التشبيه بما خلقه. أقرأ وأكرر واستعيد فتأخذ الكلمات معان مختلفة وحتى متعارضة. سحرني الحلاج وهو دائخ بوجود الله و غيابه:
إذا رمت شرقاً أنت في الشرق شرقه
وإن رمت غرباً أنت نصب عياني
فأنت محل الكل، بل لا محلّه
وأنت بكل الكل ليس بفاني.
كنّا نعتقد باننا أبتكرنا قصيدة النثر حين أنكرنا الإيقاع والغنائية. أدونيس اخبرنا بأن عبد الجبار النفّري بدأها قبلنا في زمنه العبّاسي. لم يشر النفري إلى مدينته بل ضيّعنا وهو سائر إلى مدينة (لا تجد اليها السبّابة متجها). سحرتنا اللازمة في كتابات الصوفيين وصارت تعويضاً عن وحدة القافية ووحدة الإيقاع. اللازمة حتى وإن عارضت معناها عالجت تشظّي القصيدة و تعارض الصور. اللغة ليست مجرد أداة توصيل للمعنى، إنما هي بحد ذاتها أداة اختبار لمعاني غامضة غائبةً، حتى عن الشاعر نفسه.
المداخلات في قاعة الإدارة المحلية اختلفت في التراتب، من هو القائل، ومن المقول له. هذه العلاقةً الملتبسة كانت شاغل المحاضرين وغابت الصورة الكليةً الكامنة في العلاقةً بين المتصوف وعالمه الاجتماعي في زمن تحالف المؤسستين السياسية والدينية في مواجهة المعارض..
أسوأ المدن
دوختني الكلمات وتعارض الأفكار، فخرجت أبحث عن مشاهد. أوقفت سائق التاكسي الشاب علي وقلت له:
-لا أريد مكاناً محدداً، أريد أن تريني مدينتك!
لم يتردد:
-ما الذي تريد أن تراه؟ المدينة كلها عبارة عن مزبلة!
عينه لا تخطئ، و إصبعه الذي يشير يرياني المتناقضات في (شارع الخيل). بيوت جديدة فارهة تحيط بها المزابل والحفر التي لم تردم، حاويات الزبالة فاضت ولم ترفع، مدارس الأطفال محاطة بمبازل مياه راكدة، رائحة خانقة تحيط بالمدينة و تغطيها. عابرون ماتت شكاواهم من التكرار فتقبلوا أقدارهم. في نهاية الرحلة لخّصها علي:
-مدينتنا هي أسوأ الأسوأ!
في الساعة السابعة شهدت مباراة العراق مع الأردن في مقهى شعبي.. شبان ومراهقين توزعوا على شاشتين متقابلتين. الصبي الذي جاورني متوتر يرفس بعكسه خاصرتي كلما اقترب الفريق الأردني من الهدف العراقي و كلما أخطأ لاعب عراقي تسديد الضربة. عجبت وأنا أتلبس حماسه، كيف يحب صبي فقير مثله بلاداً لم تمنحه شيئا؟عجبت أكثر بالذين وزعوا صورهم بين الركام وأكوام المزابل: بأي منجز يفخرون!
مدينة (أنليل)
حاولت أن أبدأ بالرحلة من نهايتها ثم أستعيد البداية. الزمن طيّع في الكتابة، نستطيع أن نقطّعه و نعيد تركيبه أو نقلبه. يحدث هذا في الرواية، على عكسه يسير الزمن باتجاه واحد إلى الأمام ويتركك حائرا في الوسط أو في البداية.
أبدأ من النهاية في رحلة على طول ٢٠ كيلو متر. غادرنا الديوانية و تجاوزنا عفك، غادرنا الطريق المسفلت و دخلنا دائرة التراب من ثغرة في دائرة التلال. تراب، تراب، تراب.. هذا ما تبقى من مدينة الآلهة. خلفنا وأمامنا خطّ طويل من التراب. تراب فوقنا وتراب أمامنا ينتظر خطواتنا ليتحرك. لتراب يدخل في عيوننا وينفذ من مساماتنا ونتذوقه مالحاً بين أسناننا. في مدينة التراب أحسست بالماء غرينا في فمي. التراب وحّدنا مع أجدادنا السومريين. فهو أول ما رآه آنليل فخطر بباله الماء وهو نقضه ورديفه: ليكن هناك ماء في الأعالي وماء في الأسفل، ثم تذكر التراب وقال ليكن بينهما جلد!
سكن آنليل أعلى جبل وبدأ يصنع الملوك بصفعة على الخد ثم يوزعهم على الممالك. عرف الملوك جبروته فحكموا بتوسل إرادته. على عكسهم خالف المتمرد كلكامش إرادته فعيّن نفسه نصف ملك ونصفه إله. غضب أنليل عليه فأصابه بالقلق الأبدي في سعي لائب طلباً للمستحيل، يجرّ احفاده العراقيين من حرب إلى حرب، ومن متاهة لأخرى.
حين وصلت مدينة أنليل فوجئت وسط أفق التراب بحزمةً من رجال خالفوا استواء الأفق وبدوا مثل علامات تعجب. غادرت مستقبلينا. أردت برفقةً الكاتب (ثامر الحاج أمين) أن أصعد إلى موقع الآلهة، لكن التراب الهيّال تحت قدمي ردني إلى موقع الرعية، مالك يا رجل؟ هناك يسكن الإله وحده!
عودة إلى العمود
في السرادق الذي أقيم لاستقبالنا تتابع الشعراء. ينسون المكان والموضوع ليقولوا شيئاً عن الحاضر. العمود هو السائد. العمود كما يقول العموديون ما زال سائداً بين متلقيه. إيقاعه ثابت و يعرفه المتلقي فيصفق لنفسه وقد عرف مسبقاً الموضوع والخاتمةً. موضوعه هو لوم الذات الحاضرة مقارنة بحضارة الأجداد، مرثية ما بعد نكسة حزيران التي لخصّها نزار قباني:
يا حزيران أنت أكبر منّا، وأب أنت ما له أبناء.
تركنا نفّر وأسرارها التي بقيت بكراً تحت ترابها وعدنا للمدينة لأسرار النفري، عدنا للديوانية وقد حفرت دون أن تبنى، عدنا للحاضر حزناً على الماضي شفاعتنا هي الكرم الروحي لأصدقائنا من أبناء المدينة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: استطرادات لغوية

عبد السلام الناصري.. الاختيار الصعب المحفوف بأشد المخاطر

مثقفون: غياب العراق عن المؤشر ليس بالمستغرب في ظل اضطراب الوضع السياسي الذي ألقى بظلاله على الثقافة

السرد: متخيلات وأقيسة

الفيلم العراقي (آخر السعاة): أفضل ممثل وأفضل سيناريو

مقالات ذات صلة

معضلة التعليم الكبرى.. المنهج والاختبارات
عام

معضلة التعليم الكبرى.. المنهج والاختبارات

سامّي رايت*ترجمة: لطفية الدليميتحدّد هذه معدلات الامتحانات النتيجة النهائية لسنوات عديدة من الدراسة التي تمّ اختزالُها في بضع ساعات امتحانية في قاعة للامتحان. لكن بالنسبة للأكثرية الغالبة من هؤلاء الشباب اليافعين فإنّهم ما أن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram