ستار كاووش
رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء ينتظرون شراء التذاكر ليوم غد. عندها فهمتُ بأنني لو حضرتَ غداً وأردتَ شراء تذكرة فأن الوقت يكون قد فات أيضاً، فوقفتُ في الصف حتى وصلتُ بعد نصف ساعة الى بائعة التذاكر، والتي قالت لي (يمكنك أن تختار ليوم غد واحداً من توقيتين، في الحادية عشرة صباحاً أو الثالثة بعد الظهر)، فإخترتُ التوقيت الأول وعدتُ في اليوم التالي لزيارة هذا المتحف الذي يضم أهم انجازات فناني النمسا وأوروبا، وإبتدأتُ بالحديقة الممتدة لأكثر من كيلومتر والتي يقف في مقدمتها القصر العظيم الذي يُسمى الآن متحف بلفدير الأعلى، فيما يوجد خلف الحديقة ما يطلق عليه بلفدير التحتي. قمتُ بجولة سريعة في الحديقة وتماثيلها المستوحاة من تماثيل مصر القديمة، حيث الزهور تملأ المكان. والنافورات التي تعيدنا الى عصر فيينا الذهبي، فيما أرائك الجلوس توزعت بين ثنايا المكان الذي يشبه مكاناً لتصوير أحد الأفلام التاريخية. قررتُ أن أبدأ بالمتحف التحتي، فتوجهتُ أقصى الحديقة وهبطتُ من مدرج واسع بإتجاه المتحف الذي يستضيف الآن معرضاً مهماً للفنانة برونسيا كولر-بينيل (١٨٦٣- ١٩٣٤)، حيث تصدَّرَ الواجهة إعلان المعرض الذي طُبعت عليه لوحة رسمت فيها إبنتها سيلفيا مع قفص للطيور. كان لبرونسيا مساهمات وأهمية كبيرة في فترة انتقال الرسم الى الحداثة على يد غوستاف كليمت وإيغون شيله وباقي فناني فيينا وكانت عضواً في جماعة الإنفصاليين الشهيرة، وفنها نموذجاَ رائعاً لفن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بتقنية متماسكة حيث ابتدأ المعرض ببورتريت ذاتي لها، تجلس ساهمة وتشبك يديها، حيث منح ردائها الأسود على الخلفية البيضاء شكلاً غرافيكياً لهذا العمل. رسمت برونسيا مواضيعاً عديدة، لكن يبقى موضوع المرأة الذي تناولته بحالات وتكوينات مختلفة هو المحرك الأساسي لأعمالها.
درست هذه الفنانة في فيينا وتأثرت أيضاً بالمدرسة الوحشية الفرنسية والتعبيرية الألمانية، لكن أعمال غوستاف كليمت هي التي نالت نصيباً كبيراً من التأثير عليها وعلى أعمالها. مع ذلك لم تسلم هذه الفنانة من الإهمال وعدم التقدير رغم موهبتها وإنجازاتها المهمة، حيث نَعَتَها الكثير من مجايليها (مجرد ربة منزل لديها موهبة في الرسم)، وتمادى الكثيرون بوصفها (زوجة موهوبة لرجل مهم)، وكان ذلك بسبب زواجها من هوغو كولر الذي كان أحد أثرياء فيينا وجامع أعمال فنية مهم. وبعد سنوات طويلة أعادتْ لها إبنتها سيلفيا الحياة من خلال مجموعة من العروض هنا وهناك في ستينيات القرن العشرين بإعتبارها واحدة من أهم شخصيات فيينا في وقتها. ثم أعيد لها الاعتبار أكثر في الثمانينيات، لتعود الى الواجهة مجدداً وبقوة، وها هو متحف بلفدير يفتح لها الآن هذه النافذة الكبيرة التي جعلتنا نطل على أعمالها التي لم ينصفها زمنها، ولتثبتْ لنا من جديد، أن الجواهر الثمينة، مهما تراكم عليها الغبار، ستأتي حتماً اليد التي تفرك عنها سنوات النسيان وتكشف جمالها الحقيقي لتضعها في المكان اللائق، كما حدث في هذا المعرض الذي أقف وسطه الآن.
خلال النهضة الثقافية لمدينة فيينا حَوَّلَتْ برونسيا صحبة زوجها هوغو بيتهما الى صالون ثقافي يجتمع فيه فناني فيينا ومثقفيها، من رسامين ومعماريين وموسيقيين وشعراء وحتى مصممي الأثاث وأصحاب دور النشر، وتعدى ذلك الى لقاءات ثقافية كانا يُقيمانها في المقاهي، حيث كانت برونسيا تقف في قلب تلك الأحداث وتحركها بفاعلية كبيرة وتأثير هائل، ولم تكن برونسيا راعية للفن فقط، بل كانت تمثل جوهر تلك اللقاءات المهمة، وكان لذلك أثر عظيم في تطور الفنانين وترسيخ أثر فيينا كحاضرة ثقافية لامعة وسط أوروبا. وسط ذلك الصعود وتلك المناخات توفي الفنان العظيم كليمت، ليعم الوجوم والحزن بسبب فقدان هذا المعلم والمؤثر الكبير، وهنا بدأت الانظار تُسلط على الشاب اللامع إيغون شيله، الذي كلفته برونسيا برسم بورتريت لزوجها المثقف هوغو، لتقدمه له هدية في ميلاده الخمسين. وهذا البورتريت يأخذ مكانه الآن وسط معرضها، كضيف شرف جميل يُعيدنا الى أيام ذهبية مضت، حيث يظهر هوغو ببدلته الداكنه وشعره الأشقر جالساً على كرسي بلون أخضر ومحاطاً من كل جانب بالعديد من الكتب، ينظر الى اليسار وهو يفتح كتاباً كأنه يتحدث مع شخص ما حول متحوى هذا الكتاب. التكوين هنا فريد بسبب الكتب التي شكلت إطاراً للموديل الذي يميل بجسده نحو اليسار فيما تتحرك يداه فوق صفحات الكتاب. خرجتُ من معرض برونسيا، وقبلَ أن أصعد السلم نحو الحديقة، تأملتُ من جديد لوحتها المطبوعة في الإعلان، والتي رسمت فيها إبنتها سيلفيا التي بدتْ تتأمل العصافير التي داخل القفص، كأنها تريد أن تمنحها حريتها وتطلقها لهذا الفضاء الواسع، كما فعلت بلوحات أمها وأطلقتها في فضاءات المتاحف.