TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

نشر في: 26 نوفمبر, 2024: 12:01 ص

أحمد حسن

الليبرالية والماركسية تمثلان منظومتين فكريتين رئيستين شكلتا معالم الفكر السياسي المعاصر، وتُعدّان من الأيديولوجيات التي لا تقتصر على البعد الفلسفي فحسب، بل تنغمس أيضًا في الواقع السياسي، رغم أن العلاقة بينهما وبين ممارسات السياسة لا تخلو من التوتر والتناقض. فبينما تقوم كل من الليبرالية والماركسية على أسس فكرية فلسفية تستند إلى مفاهيم مثل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، إلا أن تطبيقاتهما السياسية غالبًا ما تكون مشوهة أو متباينة عن تلك المبادئ التي انطلقت منها تلك الأيديولوجيات.
الليبرالية بوصفها منظومة فلسفية تقدم تصورًا راديكاليًا حول الحقوق الفردية والحرية الشخصية والمساواة، وهي، كما يظهر في كتابات جون لوك وجون ستيوارت ميل، تُعدّ النظام الذي يضمن أن حقوق الإنسان غير قابلة للتصرف أو التنازل. جوهر الفكر الليبرالي يرتكز على احترام الفرد ككائن مستقل قادر على اتخاذ قراراته بحرية بعيدًا عن تدخل الدولة. لكن في ممارساتها السياسية، يتضح أن النظم التي تتبنى الليبرالية لا تنجح دومًا في تجسيد هذه المبادئ. فالتطبيقات الليبرالية في العالم الواقعي غالبًا ما تُفرغ المفاهيم النظرية من محتواها.
فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، بالرغم من أنها تعدّ نفسها دولة ليبرالية، فإن التفاوت الاجتماعي والاقتصادي يعكس تحديًا حقيقيًا لفكرة المساواة التي تعدّ من الركائز الأساسية للفكر الليبرالي. وكان ألكسيس دي توكفيل في مؤلفه "الديمقراطية في أمريكا" قد أشار إلى أن النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة لم يتجنب أن يكون منحازًا تجاه الطبقات الحاكمة، إذ ظل الفقراء والمهاجرون يعانون من التهميش السياسي والاجتماعي رغم وجود حقوق دستورية تحميهم. وهكذا، تظهر التباينات بين النظرية والتطبيق في الليبرالية، إذ تصبح الحقوق الفردية والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية على صلة وثيقة ببعضها في سياق نظام ليبرالي عملي.
في المقابل، الماركسية كما صاغها كارل ماركس وفريدريك إنجلز تقوم على فكرة أن التاريخ هو تاريخ صراع الطبقات،وإن البروليتاريا (أو الطبقة العاملة)، هي الفئة التي لا تملك وسائل الإنتاج وتخضع للاستغلال من قبل البرجوازية المالكة. من هنا، تنبع الثورة الماركسية التي تدعو إلى تجاوز النظام الرأسمالي وتحقيق مجتمع يسوده العدل والمساواة عبر إلغاء الطبقات الاجتماعية. لكن أيضًا في الممارسة السياسية، تُظهر تطبيقات الماركسية في الدول التي تبنتها الكثير من المفارقات. فالثورات التي تبنت الماركسية، مثل الثورة البلشفية في روسيا أو الثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ، لم تفضِ إلى تطبيق المساواة والعدالة التي بشّر بها ماركس، بل في حالات عديدة تحولت إلى أنظمة استبدادية، تُمارس نفس الأساليب القمعية التي كانت الماركسية نفسها تسعى للتخلص منها.
في الاتحاد السوفيتي، يُعد ستالين مثالًا صارخًا على هذا التناقض، إذ طُبّق الماركسية بشكل تجاوز فيه الفردية لصالح هيمنة الدولة، ليصبح الحزب هو المحرك الأساسي، في حين كانت الطبقات العاملة لا تزال تحت سيطرة بيروقراطية قوية ومتحكمة. ولعل المفكر أنطونيو غرامشي قد أشار إلى هذا التناقض من خلال مفهوم الهيمنة الثقافية، فالطبقات الحاكمة في الأنظمة الماركسية كانت تجد وسيلة للهيمنة على الطبقات الشعبية عبر أدوات الدولة والحزب، وهو ما يؤدي إلى تفريغ الفكر الماركسي من مضمونه الثوري.
إذا نظرنا إلى التداخل بين الأيديولوجي والسياسي، فإننا نجد أن الليبرالية والماركسية في جوهرهما ليسا مجرد شعارات سياسية أو مواقف طبقية، بل أنظمة فكرية تستند إلى تحليل عميق لطبيعة العلاقات بين الفرد والجماعة، والدولة والحرية. ولكن التحدي الرئيسي في هذه الأيديولوجيات يكمن في كيفية تحقيق المبادئ الفلسفية ضمن سياقات سياسية ومجتمعية تختلف عن تلك التي وُجدت فيها الأيديولوجيات لأول مرة.
ففي الوقت الذي تسعى فيه النظم الليبرالية إلى ضمان حرية الفرد، إلا أن هذا الهدف غالبًا ما يتناقض مع السياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومات الليبرالية، والتي في كثير من الأحيان تسهم في تعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية. بالمثل، يسعى الفكر الماركسي إلى تحرير الإنسان من قبضة الطبقات المالكة، لكنه في التطبيق السياسي يعجز عن تحقيق المساواة الكاملة، بل غالبًا ما يتسبب في تعزيز السلطة البيروقراطية.
إن التفكيك المعرفي للأيديولوجيات الليبرالية والماركسية لا يعني رفض الفكرين في جوهرهما، بل العمل على إعادة فهمهما في سياق تاريخي يتجاوز التعميمات والافتراضات المبدئية التي قد تفرغ الأيديولوجيا من محتواها وتدفعها نحو التوظيف السياسي. وفي هذا الصدد، تكمن مهمة المثقف الأكاديمي في تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية بعين نقدية تتجاوز السطحية والتبسيط المفرط. فالمثقف لا يكتفي بنقل أو استنساخ الأفكار الكبرى كما هي، بل يتوجب عليه أن يقدم تحليلات معمقة لكيفية تفاعل الأيديولوجيات مع الواقع المعيش، وكيف أن التحديات السياسية والاجتماعية تتداخل مع الفلسفات الفكرية وتعيد تشكيلها وفقًا للظروف.
من خلال هذا التفكيك، يصبح بإمكاننا فهم التعقيد الكامن وراء العلاقة بين النظرية السياسية والممارسة السياسية. فالأيديولوجيات ليست أدوات ثابتة تفرض نفسها على الواقع، بل هي مفاهيم ديناميكية تتطور بتطور الزمن وتفاعلها مع القوى الاقتصادية والاجتماعية السائدة. وعليه، فإن التفكيك المعرفي هو في النهاية أداة لفهم كيف يتم تسييس الأفكار وكيف تُفرغ الممارسات السياسية الأيديولوجيات من مضمونها، ما يفتح المجال لمزيد من التأمل والنقد حول العلاقة بين الفكر والسياسة في عالم معقد ودائم التغير.
إن حقوق الإنسان، بما في ذلك الحريات الأساسية مثل حرية التعبير، والتعددية، والحق في الاحتجاج، وكذلك اللوائح التي اعتمدتها الأمم المتحدة، ينبغي أن تُفهم بوصفها حقوقًا تتجاوز الأيديولوجيات السياسية وتفوق الأنظمة التي تتبنى هذه الأيديولوجيات، سواء كانت ليبرالية، ماركسية، أو غيرها. هذه الحقوق هي حقوق إنسانية عالمية لا تقتصر على فكر سياسي بعينه، بل تمثل القيم الأساسية التي تحمي كرامة الإنسان بغض النظر عن السياق الثقافي أو السياسي.
لكن الواقع، كما نرى، يختلف تمامًا. فالأنظمة التي تتبنى الأيديولوجيات الليبرالية في الغرب، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا، تتفاوت في تبنيها الفعلي لهذه الحقوق. في بعض الأحيان، تعمل هذه الأنظمة على حماية الشرعية القانونية لحقوق الإنسان، بينما في أوقات أخرى، تتحول هذه الحقوق إلى مجرد أداة لفرض هيمنة سياسية أو اقتصادية. وفي الواقع، هناك أنظمة غربية تسعى أحيانًا لاستخدام القيم الليبرالية كستار لتبرير ممارساتها القمعية، وتزعم بأنها حامية لهذه الحقوق، بينما هي في الحقيقة متورطة في انتهاكها.
فما يحدث في غزة، على سبيل المثال، هو إحدى الصور القاسية التي لا ينبغي أن تخلط بين المفاهيم والممارسات. القيم الليبرالية نفسها التي تروج لها الأنظمة الغربية لا علاقة لها بالجرائم التي ترتكبها هذه الأنظمة. فهذه القيم، التي تدعو إلى احترام الإنسان وحمايته من الظلم، ليست هي المسؤولة عن هذه الجرائم، بل الأنظمة التي تدعي التمسك بتلك القيم في الخارج، بينما تخذلها في الداخل. فالأنظمة الليبرالية، في الكثير من الأحيان، لا تتردد في توجيه هذه القيم الإنسانية نحو مصالح سلطوية تسعى لتعزيز هيمنة السوق والسيطرة الاقتصادية على الشعوب، مع التغاضي عن الانتهاكات الإنسانية والفظائع التي ترتكب باسم الأمن أو المصلحة الاستراتيجية.
إذن، لا يمكن تحميل القيم الليبرالية مسؤولية هذه الانتهاكات. فالقيم الإنسانية هي مفاهيم ثابتة، يجب أن تبقى بعيدة عن التوظيف السياسي أو الاقتصادي الذي يحرفها عن مسارها الصحيح. ولكن الذي يحدث في الواقع، هو إن الأنظمة الليبرالية في ممارستها للسياسة، تعطي الأولوية للأجندات الاقتصادية أو الأمنية على حساب القيم الإنسانية، ما يفضي إلى تقويض حقوق الإنسان وتهميش مبادئ العدالة والمساواة التي تدّعي تمسكها بها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

باليت المدى: جوهرة بلفدير

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

 علي حسين قالوا في تسويغ الافراج عن بطل " سرقة القرن " نور زهير ، ان الرجل صحى ضميره وسيعيد الاموال التي سرقها في وضح النهار ، واخبرنا القاضي الذي اصدر قرارا بالافراج...
علي حسين

العراق بانتظار العدوان الإسرائيلي: الدروس والعبر

د. فالح الحمــراني إن قضية أمن البلاد ليست ذات أفق عسكري وحسب، وإنما لها مكون سياسي يقوم على تمتين الوحدة الوطنية والسير بالعملية السياسية على أسس صحيحة،يفتقدها العراق اليوم. وفي هذا السياق يضع تلويح...
د. فالح الحمراني

هل هي شبكات رسمية متشابكة أم منظمات خفية فوق الوطنية؟

محمد علي الحيدري يُشير مفهوم "الدولة العميقة" إلى شبكة من النخب السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستخباراتية التي تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسات العامة وصناعة القرار في الدولة، بغض النظر عن إرادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا. ويُعتقد...
محمد علي الحيدري

الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

أحمد حسن الليبرالية والماركسية تمثلان منظومتين فكريتين رئيستين شكلتا معالم الفكر السياسي المعاصر، وتُعدّان من الأيديولوجيات التي لا تقتصر على البعد الفلسفي فحسب، بل تنغمس أيضًا في الواقع السياسي، رغم أن العلاقة بينهما وبين...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram