جوني ثومسُن*
ترجمة: لطفية الدليمي
سؤال وردني على البريد الالكتروني:
عزيزي السيد ثومسن
في أواسط سبعيناتي قابلتُ إمرأة تصغرُني بعشرين عاماً، وقد أبانت عن اهتمام فكري بي لا يمكن تغافله أو الالتفاف عليه. هي في عمر ابنتي، وأنا من جانبي أرى أنّ عمري يُملي عليّ رغبة متضائلة في تلمّس مفاعيل الانتشاء الجنسي المتخيل والناجم عن علاقة مثل هذه؛ لكنّي أرغبُ في البقاء بصحبة هذه المرأة الشابة. نتواعد على العشاء، ونتشاركُ رحلات عطل نهاية الاسبوع معاً، وهي مصدر إثارة وتحفيز لي من الوجهة الفكرية. أنا منغمس في الكتابة، وكثيراً ما قدَحَتْ بعضُ مناقشاتنا الحيوية أفكاراً إبداعية لديّ. معضلتي تكمنُ في السؤال التالي: هل يتوجّبُ عليّ تركُ هذه المرأة الشابة وحيدةً لشأنها؟
- مايك، الولايات المتّحدة
أعتقدُ أنّ هذا تساؤل مثير، ومكمَنُ الاثارة فيه ليس في طبيعة السؤال المكشوف بذاته فحسب بل في مجموعة من الأسئلة الماكثة في الحفر الفكري والتاريخي لهذا التساؤل في أصوله الأولى. قد يبدو السؤال لأول وهلة عادياً ولا ينطوي أبداً على أية معضلة من أيّ نوع كان. نحن إزاء صداقة بين شخصيْن بعمريّن متباينيْن وأدوار إجتماعية متباينة هي الأخرى؛ لكنّ الصداقة الحقيقية برغم كلّ هذه التباينات يمكن أن تنعقد بينهما. حتى على الصعيد الفلسفي -الذي هو في موضع المركز من اهتماماتي المهنية- ليس ثمّة مِنْ معضلة؛ إذ لا أظنّ أنّ فيلسوفاً حقيقياً بوسعه نكرانُ أهمية الصداقات الجيدة إلّا إذا كان يعيش حياة منعزلة بشكل كامل في مكان لا أظنّه ينتمي إلى عالمنا الأرضي الذي نعرف.
لكن برغم هذا الإعتراف الصريح بأهمية الصداقة أرى شيئاً غريباً في النبرة وترتيب الكلمات في سؤال مايك ممّا يمكنُ أن يرقى لمرتبة أن يطرق دماغي كمعضلة حقيقية. أوّل هذه الأشياء هو الإشارة المتكرّرة إلى العمر وبخاصة في عبارة (هي بعمر إبنتي)، وكذلك في العبارة الختامية (هل يجب عليّ تركُ هذه المرأة الشابة وحيدة لشأنها؟). الأمر الثاني هو الإشارة إلى العلاقة الجسدية (الجنسية) المتصفة بالحميمية وطغيان المشاعر اللذيذة. من الواضح أنّ الإثنيْن تجمعهما رابطة قوية، وليس من غير الشائع للرجال الكبار العثورُ على نساء شابات فاتنات يتوهجن جاذبية؛ لكن يبدو أنّ تساؤل مايك هنا هو التساؤل ذاته الذي بات ذا شهرة عالمية النطاق بعد أن تناوله الفلم السينمائي عندما إلتقى هاري بسالي When Harry Met Sally. في هذا الفلم رأى هاري، وبقناعة إفتراضية غير مسوّغة بمنطق التساؤل ومحاولة الإستكشاف المُدقق، إستحالةَ أن يكون في إستطاعة رجلٍ ما بناءُ صداقة حقيقية مع إمرأة يجدها فاتنة وجذابة (بمعنى أنه يحبها، المترجمة). يبدو هاري مسكوناً بقناعة راسخة أنّ مثل هذا الرجل يسعى لإقامة علاقة حميمة مع هذه المرأة. أو دعونا نقدّم الأمر بصياغة أخرى: هل تقف العلاقة الحميمة عائقاً في طريق إقامة صداقة حقيقية بين رجل وإمرأة؟
هذا التساؤل أبعد ما يكون عن محاولة تلويث سمعة مايك أبداً. سأركّز من جانبي على عبارته (لديّ رغبة متضائلة في الجنس)، وسأفكّك هذه العبارة مع إفتراض أساسي مفادُهُ أنّ كلاً من مايك ومجتمعه يعتقدان بأهمية العلاقة الحميمة في تشكيل حياة الفرد ورؤيته الفلسفية العامة. لذا ولكي أجيب على تساؤل مايك سأسألُ من جانبي: هل تراه أمراً ممكناً أن تبني علاقة فكرية مع شخصٍ (رجل أو إمرأة) تحسبه مثيراً من الناحية الجنسية بأيّ قدر كان من الإثارة؟
سعياً لبلوغ جواب مناسب لهذا السؤال سنلجأ للتاريخ الخاص بالصداقات الفكرية. الشخصية الأهم في هذا التاريخ -فضلاً عن دورها في الأسبقية الريادية- هي ديوتيما (Diotima. وهي الكاهنة المذكورة في المحاورات الافلاطونية) سنجيب على تساؤل مايك مستعينين بذخيرة خبرة ديوتيما فنقول: ليست مثل تلك العلاقات ممكنة فحسب بل على مايك أن يمضي فيها لأنّها تستحقّ كلّ مظاهر التقدير والتبجيل فضلاً عن المديح. لكي نوضّح فكرة ديوتيما من المناسب الإستعانةُ بتاريخ الافكار، وأعني بالتخصيص في هذا التاريخ، وبقدر ما يختصّ الأمرُ بموضوعتنا، أفلاطون والرهبنة المسيحية.
ديوتيما وفلسفة الحب
رؤية الحقيقة من خلال شخص ما
لا نعلمُ على وجه اليقين الراسخ فيما لو كانت ديوتيما شخصاً حقيقياً؛ إذ لا ذكرَ لها سوى في المحاورات الأفلاطونية. لكن برغم هذا فهو لا يعني بالضرورة أنّها شخصية مصطنعة بوحي تلفيق خيالي لأنّنا نعلمُ أنّ كل الشخصيات التي تناولها أفلاطون في محاوراته مثّلت شخصيات حقيقية. لو وُجِدت ديوتيما كشخصية حقيقية (وهو الرأي الأقرب للصواب بشواهد كثيرة) فهذا يعني أنّها واحدةٌ بين أوائل النساء الفيلسوفات إلى جانب كونها كاهنة. يُقالُ أنّ ديوتيما هي من علّمت سقراط "فلسفة الحب"، وتعاليمها هذه هي التي دوّنها أفلاطون في محاوراته وجعلها مثابة عليا فيما يخصّ الحب وكلّ المتعلّقات الخاصة به.
رأت ديوتيما أنّ الحب يتطوّر في أطوار: في البدء نحنُ نحبُّ الأشياء الجميلة (على شاكلة جسد جذاب أو مُزحة ظريفة). نحنُ نحبُّ شخصاً بذاته. في حالة مايك قد يكون الأمر أنّه إنجذب إبتداءً إلى "تلك المرأة الشابة" بسبب طاقتها الطافحة بالحيوية واللمعان المشرق في عينيها. بعد هذا الطور، وبحسب ما تراه ديوتيما، يحصل أمرٌ غريب: الحب الحقيقي يتمثّلُ في نمط من الرؤية التعميمية. يبدأ المرء المحبّ في رؤية الأشكال والنماذج النمطية المعمّمة انطلاقاً من أشياء محدّدة. يبدأ في هذا الطور بمحبّة العطف، والظُرْف، والكرم، والإخلاص، وتعزيز روح التعاون والمشاركة. الفرق المميّز قبل لحظة الحب وبعدها أنّ المرء بعد تذوّق تجربة الحب يحبّ هذه الخواص الطيبة في كلّ الأوقات وليس في لحظة محدّدة بذاتها. هذا هو ما نعنيه بالخصيصة التعميمية التي يصنعها الحب الحقيقي. الأكثر أهمية في الأمر كلّه هو الحس التجريدي نحو الطيبة والحقيقة والجمال؛ بمعنى فك الإرتباط بين هذه الصفات العليا والمواقف المادية المشخّصة، ورؤية كلّ الأشكال الممكنة في العالم عبر سلسلة من التفاعلات المشتبكة والمعقدة لهذه الخواص العليا الثلاث. وفقاً لديوتيما، ما بدأ كشيء مادي بين شخصيْن (الحب بين مايك والمرأة الشابة في مثالنا) إنتهى إلى علاقة بين عقليْن وروحيْن. الأجساد ليست بذات أهمية في هذه العلاقة: علاقة الحب. كلّ ما يهمّ هو الإهتمام الفكري وتحفيز الشعلة الإبداعية لدى كلّ من المتحابّيْن.
الحياة الرهبانية: تجنّبُ دافع الإثارة الجنسية
المعضلة في المخطط السابق للحب كما تراه فلسفة ديوتيما أنّ كثيرين يجدون الأمر شاقاً للغاية عندما يسعون لبلوغ هذا النوع من النقاوة والطهرانية (وهو ما نسمّيه بالحبّ الأفلاطوني في لغتنا اليومية المتداولة، المترجمة)؛ بل قد يبلغ الامر مبلغ الإستعصاء وعدم القدرة على الوفاء بإشتراطات هذا الحب. نحن قد تكون لدينا أفضلُ النوايا وأطيبُها في العالم للإنخراط في صداقات فكرية خالصة؛ لكنّ أجسادَنا لن تنفكّ تنادينا بغضب لتذكّرنا بضرورة سماع أصواتها الضاجة بالصراخ من مكامنها الخبيئة في أعمق أعماقنا. نجد أناساً كثيرين باعثين على الفتنة والغواية، وما أكثر ما نفكّرُ بشهوانية، وغالباً ما تفتنُنا الإلهاءات في العالم المترع بشتى صنوف الإبتكارات الشهوانية التي نجد فيها سلوى وتسكيناً لأرواحنا التوّاقة لأشكال الحب الحميمة. يرى أفلاطون أنّنا في الغالب ننجذبُ تحت تأثير الأوتار التي تُخاطِبُ رغباتنا، مثل الشهوة، وهي غالباً ما تنجح في مساعيها.
لو تماهينا مع الفكرة القائلة بأنّ مشتهياتنا الجنسية تكبحُ مَلَكاتِنا العقلانية (أو كما يقالُ في مأثور الكلام: التفكير بنصفنا السفلي سيعيقُ قطار أفكارنا)، فما الذي بمستطاعنا فعلُهُ لو كنّا جادين حول ضرورة وأهمية التفكّر الفلسفي في حياتنا؟ الجواب هو: العفّة Chastity. في التقليد الديني المسيحي، هؤلاء الذين يتعاملون بجدية مع دينهم ولا يريدون التفريط بتعاليمهم التقوية يصبحون رهباناً (هذا في العصور السابقة. الأمر تناقص إلى حد بعيد في العصر الحالي. المترجمة). للرهبان والراهبات تاريخ طويل من تفادي العلاقة مع الجنس الآخر. طبقاً للتقليد المسيحي المتوارث أرست قاعدة القديس بندكت Rule of Saint Benedict أولى الأوامر الشكلية واجبة الإتباع في الأديرة الأولى، وواحدةٌ بين أهم هذه الأوامر هي العفّة. ليس من سبيل إلى الجنس، وليس من سبيل كذلك إلى أفكار بشأن الجنس. أحِطْ نفسك دوماً وبالكامل بأفراد من ذات جنسك: الراهبات في أديرة الراهبات، والرهبان في أديرة الرهبان.
التسويغ الكامن في قلب تعاليم القدّيس بندكت أننا متى ما حرّرنا أنفسنا من أسر القبضة الجسدية للطاقة الجنسية Libido الكامنة فينا فحينها فقط نستطيعُ التأمّل في الرب وأفاعيله المجيدة في حياتنا. مَلَكاتُنا العليا لا تستطيعُ العمل في الوقت الذي تكون فيه رغباتنا الدنيا (بمعنى غير العقلية بل الجسدية، المترجمة) تعمل بفاعلية نشطة. لا نستطيع إستخدام عقولنا بكيفية صحيحة في الوقت الذي تُضَخُّ فيه الهرمونات الجنسية بدفق لا ينقطع في أجسادنا.
أظنّ، عزيزي مايك، أنّ كثرة من رهبان هذا العالم ستنظرُ إليك بنظرة ملؤها السخرية الطافحة. سيتساءلون: إلى أي مدى يصحُّ إدّعاؤك بشأن "رغبتك المتضائلة في الجنس"؟ هل علاقتك مع المرأة الشابة هي حقاً علاقة فكرية تسعى منها إلى التأمّل في المفاهيم العليا في الحياة؟ أم أنّك تجد في هذه العلاقة إلهاءات جانبية تحرفك عن المسعى الفكري بأكثر ممّا تريد الإعتراف به، أو قد لا ترغب أصلاً بالإعتراف به؟
إملأ نفسك بالبهجة أنّى إستطعت
في ختام مداخلتي هذه أعتقدُ أنّ معضلة مايك متجذّرةٌ في العلاقة الصراعية بين رغبته في إقامة صُحبة فكرية، والتوقعات المجتمعية والشخصية فيما يخصُّ العمر والجنس والعلاقات الثنائية. الحقيقة أنّ العلاقات يمكنُ أن تتّخذ وجوهاً عدّة: قد تجادلُ ديوتيما بأنّ الحبّ الحقيقي يتسامى على العلاقات الجسدية (المادية)؛ لكنّ كلاً من أفلاطون والقدّيس بندكت سيطلبُ إليك أن تمتحن بذاتك إمكانية تحقّق هذا التسامي والإنفصال بين الحب الحقيقي والتجسّد المادي الشخصي في شكل علاقة جنسية.
قلّما تنقادُ الحياة بطريقة صارمة إلى واحدة من المدارس أو الرؤى الفلسفية. يجد مايك بهجة في صحبته مع الشابة وهي تقدحُ شرارة الإبداع في حياته وأفكاره، ويبدو الأمر ممّا يقوله في رسالته بأنّ كلاً منهما بات مصدر إثراء لحياة الآخر على المستويين الفكري والشخصي. أرى أنّ علاقتهما (أو صحبتهما) طالما بقيت محترمة ومؤسّسة على القبول المشترك بها فليس ثمّة خطأ فيها. يمكنُ التعايشُ مع صحبة فكرية مثيرة لنا من الناحية الفكرية حتى لو ترافقت مع الإعتراف بإمكانية وجود قدر ما من الانجذاب للطرف الآخر فيها. هل تسمّي هذا حباً؟ سمّه لو شئت. ما الضيرُ في هذا؟
اشارة أخيرة. لو وجدْتَ بهجةً في علاقة مثل علاقة مايك بالمرأة الشابّة -شريطة أن لا تتسبّب استمراريتُها في أذى لأيّ أحد- فليس من مسوّغ لترك الطرف الآخر في هذه العلاقة/الصحبة في أي وقت كان. إنّه لأمرٌ طيب دوماً أن نمتصّ الرحيق اللذيذ في هذه الصحبة حتى لو إعتورتْها أحياناً أجواء غائمة أو مضببة. الشرط الوحيد الكافي لإدامتها هو وجودها في فضاء إنساني حيث يمكن أن تلتقي الدافعية الفكرية مع الجاذبية الشخصية التي قد تبلغ بعض مراقي الحب بشكل أو بآخر. - جوني ثومسُن Jonny Thomson: استاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد لأكثر من عقد من الزمن قبل أن يتفرّغ للكتابة. يكتب في موضوعات الفلسفة واللاهوت (الثيولوجيا) وعلم النفس (السايكولوجيا)، وأحياناً يتناول أيضاً موضوعات أخرى. حاز كتابه الاول Mini Philosophy على مقروئية واسعة وتُرجم إلى عشرين لغة صار من أفضل المبيعات (البيستسيلر). نُشِر كتابه الثاني Mini Big Ideas عام 2023.
- الموضوع اعلاه مترجم عن موقع Bigthink الألكتروني، وهو منشور بتأريخ 13 أيلول (سبتمبر) 2024.