TOP

جريدة المدى > سينما > الرحلة الساميَّة لتومو بوزوف.. فيلم (الرجل الذي لم يستطع البقاء صامتًا)

الرحلة الساميَّة لتومو بوزوف.. فيلم (الرجل الذي لم يستطع البقاء صامتًا)

نشر في: 28 نوفمبر, 2024: 12:01 ص

علي الياسري
يمكننا ان نسيل الكثير من الحبر على الورق، ويمكننا ان نكتب ما نشاء من كلمات الكترونية لوصف واقع عنف متطرف في لجة صراع مجنون، لكن للاقتراب من قعر الانحدار الوحشي للسلوك البشري علينا ان نشعر بثقل الصمت بلحظة حقيقة فارقة حين يضغط على ارواح الذين مضغوا فعل الحضارة واستطابوا سجاياها وقدَّروا اخلاقياتها والرفعة التي تهبها للإنسان بالسلام. بوهج استنارتها يحافظ الفرد غير المكبل بقيود الامراض الاجتماعية واللوثات العقلية للغلو بمسمياته واصنافه المختلفة على قدرة تجاوز الرضوخ لعقدة اللسان التي يفعلها رعب الخوف. لا شيء اسمى من صوت عدالة صادح يتردد صداه بعمق لإخراس جَوّر ضجيج السلاح بقوة الارادة.
تلك هي الفكرة الاساس للفيلم الكرواتي القصير (الرجل الذي لم يستطع البقاء صامتًا) والفائز بالسعفة الذهبية للفيلم القصير الافضل بمهرجان كان السينمائي بدورته السابعة والسبعون، حيث تدور قصته حول مذبحة شتربسي في البوسنة بشباط من العام 1993 عندما اوقفت مليشيا النسور البيضاء الصربية قطار بلغراد-بار وسحبت ما يزيد على 20 شخصًا بوسنيًا منه وقامت بقتلهم بجريمة تطهير عرقي. وبينما كانوا يقتادون هؤلاء المدنيين الابرياء لم يجرؤ على التصدي لهم سوى رجل واحد من الركاب الخمسمائة، وقف بوجههم بحزم فأخذوه معهم. لم يكن بوسنيًا لكن انسانيته دفعته لعدم الصمت على الظلم. انها حكاية تومو بوزوف.
يذكر مخرج الفيلم نيبويشا سليجيبتشيفيتش ان "لكل جريمة ثلاثة جوانب: الجناة والضحايا والشهود. وقد اهتممت بشكل خاص بالمجموعة الثالثة، الشهود. تعاملت مع الفيلم وكأنه يحدث اليوم، وكأنه يحدث لنا هنا. من السهل لنا تخيل أن الأشخاص في القطار هم أشخاص آخرون، ولكن من الممكن أن يكونوا نحن، وبطريقة ما هم كذلك. تحدث أعمال عنف من حولنا يوميًا. على المستوى المحلي لا تكون هذه الأعمال شديدة كما كانت أثناء الحرب في يوغوسلافيا السابقة، ولكنها اكثر تطرفًا على المستوى العالمي. يواجه كل منا السؤال الذي يطرحه بطل الفيلم: هل يجب ان نقف مكتوفي الأيدي؟ هل بمقدورنا التصدي للعنف حتى لو لم نكن اهدافه المباشرة؟"
يستمد الفيلم غنى رحلته السينمائية بحكم كونه قصير (14 دقيقة) من الكثافة السردية بين الصدام المجتمعي والصراعات الشخصية الداخلية المتولدة من تيارات المشاعر والاحاسيس المتباينة، فيشرع في صياغة دراما الحقائق المريرة لنتائج العنف الشرس وسادية الاقصاء على الهوية. يسعى لان يجذب للزمن السينمائي من خلال التوتر والاثارة القائمين على هول اللحظة ذروة الغموض المحيط بالشخص الذي يمثل الطود الانساني (البطولة) في مواجهة رياح الشر (المليشيا). يستجمع السرد السينمائي كل الاضطراب المحيط بالشخصيات، فيُعيد استكشاف اللحظة التاريخية ومعها كم المشاعر التي تسير على حافة الموت، ورعب القتل يتحاوطها بتلك الاسئلة العِرقية المتدثرة بلحاف الثيوقراطية كمبررات لخلق واقع اثني جديد تكتبه فوهات البنادق.
ان عجز تومو بوزوف عن الصمت يكشف لنا التأثير النفسي الهائل للواقعة كزلزال اجتماعي يهز اواصر الانتماء للعيش المشترك بشدة، وكذلك يبين مسافات الطريق التي قطعها الصراع الداخلي –الزمن النفسي- للشخصية في رحلة التوفيق بين مثله العليا كإنسان متحضر وهمجية اشخاص يمثلون حقائق اللحظة الانية. بالمحصلة يغدو فعله الفردي استعارة لخطاب مجتمعي صامت يتبصّر في مراجعة مريرة للمعنى السامي للحرية والعدالة والمسؤولية الفردية والجماعية بحماية الانسانية.
نجح المخرج نيبويشا سليجيبتشيفيتش في صناعة فيلم يمتلك معالجة قادرة على موازنة التوتر والتشويق مع دراما بثقل عاطفي يسمح للمُشاهد بالتأمل الممتد طويلًا بعد انتهاء الفيلم. كان عمل الكاميرا مميز ما سمح للتصوير السينمائي بحفظ الفعل الدرامي في ذروته بناءًا على احالات بصرية معينة تعمل على خلق شعور الضيق والعجز من خلال البيئة المكانية المحدودة والحركة المُتمهلة وتباينات الاضاءة، كما انه يلتقط بمهارة تكثيف الاحساس بفعل القتل القادم يدعم ذلك من خلال تأطير الفضاء الخارج عن حيز ممر وكابينة الركاب في القطار بنافذة ضيقة وصغيرة تسعى لتبيان ملامح ما سيحصل دون الاخلال بالضغط النفسي المتولد. مثلت اللقطات المقربة عامل اساسي في رصد حركة طيف العواطف للانتقالات الشعورية الحادة. أمر أبرزه الاداء التمثيلي الجيد لطاقم الممثلين حيث أظهر قدراتهم في استخدام تقاسيم وجوههم وتعابير عيونهم لتصوير المشاعر والاحاسيس المُتشظية بين الصدمة والخوف والقبول بالأمر الواقع والرفض والادانة والاحتجاج. كما ان شريط الصوت يعمل على توفير الرؤية لما يأتي من خارج الكادر السينمائي ليوثق اجراءات الجريمة الاتية لاحقًا، بالاضافة الى تضمينه لفكرة ان صوت القطار هو المدخل الى ذاكرة المذبحة والحرب في المُفتتح فإن الفيلم يختم به مع تتر النهاية كإشارة لكونه تعبير مستدام عن الرحلة بمعناها الانساني والتاريخي والعاطفي.
يصبح فيلم (الرجل الذي لم يستطع البقاء صامتًا) بالغ التأثير لأننا معه ندرك ان البشر وسط لحظة جحيم مرعب وقاس ووحشي لا يوجد سوى قلة منهم يستطيعون التصرف كما ينبغي حين يمتلكون قوة الصوت ذو الحجة الانسانية الراسخة عندما يطغى الصمت المطبق على الجميع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

(أناشيد آدم) لعدي رشيد يمثل العراق في مهرجان البحر الأحمر

في فيلمها الروائي "ربيعة".. المخرجة ماريكا إنجلهارت تقتفي خطى الشابات الواقعات في براثن داعش

الكشف عن أعضاء لجنة تحكيم مختلف أقسام مهرجان "دهوك" السينمائي الدولي 11

مقالات ذات صلة

(أناشيد آدم) لعدي رشيد يمثل العراق في مهرجان البحر الأحمر
سينما

(أناشيد آدم) لعدي رشيد يمثل العراق في مهرجان البحر الأحمر

متابعة: المدىيشارك فيلم (أناشيد آدم) للمخرج العراقي عدي رشيد في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي بنسخته الرابعة والذي بدأت فعالياتها وتستمر حتى الرابع عشر من هذا الشهر.وكاية الفيلم تتعلق بآدم، في الثانية عشرة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram