ترجمة: قحطان المعموري
في مونولوج داخلي مغلّف بالسخرية تتضمنه رواية الكاتب بنيامين الشهيرة "أدوجيفيّام" (حياة الماعز)، والذي يعكس الكيفيّة التي يفكّر فيها نجيب بطل الرواية وبصوتٍ عالٍ في المرحلة البائسة من حياته قائلاً: " عندما أتذكّر كل ذلك الآن، أشعر وكأنني أُتابع مشهداً سينمائياً من الدرجة الرابعة تنبعث منه رائحة القيء. أحياناً تبدو حياتنا أكثر عبثية من االسينما، اليس كذلك؟". اليوم، و بعد عرض فلم " حياة الماعز" لمخرجه "بيلسي" والمبني على هذه الرواية، ماهي الأفكار والذكريات والتجارب الغريبة التي سيستحضرها هذا المونولوج فينا؟
إن التقييم النقدي للقيمة الأدبية أو الفنية للفيلم يمكن أن نجده في هذه الملاحظة من الرواية. يظهر هذا المونولوج في الرواية عندما يتذكّر نجيب، وهو سجين، كيف أخبرَ طفلَه الذي لم يُولدْ بَعدْ عندما كان يودّع زوجتَه الحامل، أنه قد لا يراه إلا عندما يعودْ. وفي حين يرى العديد من القراء الذين يتعاملونَ مع الأدب بجدّية أن رواية "حياة الماعز" مُجرد قطعة كتابة عادية، فقد أصبحت هذه الرواية اليوم من أكثر الكتب مبيعًا في اللغة (المالايالامية) والتي تُشكّل الآن جزءاً من التاريخ الأدبي في ولاية كيرالا. وفي واقع الأمر فأن حياة الراوي، التي رآها هو نفسه مشهدًا سينمائيًا من الدرجة الرابعة، قد أصبحت اليوم فيلمًا عالمياً لا مثيل له في تاريخ السينما المالايالامية.
لم تتسم رواية "حياة الماعز" بتجارب مذهلة في السرد، ولم تكن لها أبعاد فلسفية هائلة، إضافة الى عدم تفرّدها في اللغة. ومع ذلك، فقد حققت الرواية رقماً قياسياً غير مسبوق في عدد القرّاء. إن حياة نجيب، التي تم إعادة إنتاجها بصدق وأصالة في جميع جوانب الرواية، هي التي ضمنت نجاحها. إنها الأفعوانية العاطفية لسرد قصة حياة مكثفة أو سيرة ذاتية تسمى "حياة الماعز" التي ساعدتها على عبور محدودية جمهور القراء عادةً للأعمال الأدبية. عندما أعاد المخرج (بليسي) صياغة رواية "حياة الماعز" في شكل سينمائي، اتضح أنها شيء ساعده بالفعل على إتقان وسائله الخاصة وأدواته الفنية.
من الطبيعي جداً أن تعيش الماعز حياتها الحيوانية الخاصة، لكن الحياة البشرية التي لا تتوفر فيها حتى كرامة الماعز - حياة العبودية - هي في الواقع أحلك وأقسى حقيقة تتكشف من خلال فيلم حياة الماعز. يمكن القول إن المخرج " بليسي " والممثل "بريثفيراج " ومن خلال هذا الفيلم يُسجلان أقصى درجات التجربة الإنسانية؛ القسوة، المأساة، العجز، البؤس، والرعب. إذا كان نجيب يجلب الدموع إلى أعيننا على حين غَرة، فذلك لأنه يذكّرنا حقاً بمدى "سماوية" حياتنا، وهوتتويج لعمل فني كبير. وبالمثل، فإن حنان الماعز والجِمال في مشهدين من مشاهد الفيلم يجعلنا عاجزين عن الكلام. لذا يمكن القول، أن فلم حياة الماعز هو عمل فني كبير ويمثل علامة فارقة في تاريخنا السينمائي.
إن هناك بعض الأسباب المهمة التي تجعل مقارنة فلم حياة الماعز مع الأفلام الأخرى لا تبدو سهلة. في الحقيقة إن التكييف السينمائي لعمل صنع اسمه الخاص في الأدب أدى إلى مناقشات ساخنة بين المالاياليين.لكن صدق المخرج بليسي في تناوله لقصة الحياة الحقيقية لبطل الفيلم "نجيب" إضافة الى التقنيّة السرديّة لشكل الرواية، يقنعنا بأن السينما هي في الأساس فناً بصرياً.
عندما يظهرنجيب في إطار عنوان الفيلم مع الماعز منهكًا في الظلام وهو يشرب الماء من الخزّان المخصّص للماعز، أو عندما يبدأ الفيلم بإطار نبذل فيه ـ كمشاهدين ـ جهداً للتمييز بين وَجهيّ الماعز والرجل، نرى فلم حياة الماعز لدى المخرج بليسي وهو يؤسس لهويته كعمل فني فريد من نوعه. ولأن بليسي يصور عالم الماء الذي يعيشه نجيب في وطنه، إضافة الى الصحراء الرملية التي أُجبِرَ على العيش فيها ببراعة فائقة، فإننا نشعر بالمعاناة من هواء وحرارة الصحراء القاحلة حتى في قاعة السينما المكيّفة.
ان النظام البيئي الصحراوي بأكمله، يرافق "نجيب" في رحلته. فالثعابين وغيرها من مخلوقات المنطقة تتّحد مع المخاطر المتعددة الكامنة في الصحراء. وبالطبع هناك الواحات. إن العالم الخفي المذهل للصحراء، والذي يرمز إلى الفراغ والنضال من أجل البقاء والروحانية العميقة في أشكال عديدة، قد تم تصويره بالفعل في أعمال أخرى مثل فلم "الطريق إلى مكة". ومع ذلك، فإن المجال العاطفي المختلف بشكل ملحوظ وصراعاته تتجلّى في فيلم "حياة الماعز" وهناك العديد من الأمثلة على هذه المظاهر في الفيلم. لعل من بين الصور المذهلة التي ستطارد المشاهد لفترة طويلة تلك التي يظهر فيها "حكيم"، وهو عطشان وغير قادر على العثور على مياه الشرب، يبصق الرمال ويتقيأ الدم، وهو بمعنى من المعاني، نوع من الحكم الواضح على إهدارنا للموارد الطبيعية وعدم إستغلالها بعقلانية.
فلم حياة الماعز وأفلام " البقاء على قيد الحياة " العالمية
في سياق فلم حياة الماعز، هناك العديد مما يسمى بأفلام (البقاء على قيد الحياة) العالمية التي تتبادر إلى الذهن. أفلام مثل العائد، مجتمع الثلج، المستحيل، 127 ساعة، الناجين، إيفرست، المنبوذ، الخ. حيث تأخذ الشخصيات في مثل هذه الأفلام المشاهدين من ظروفهم المعيشية الهادئة إلى تجربة بصرية تأخذهم فعليا إلى حافة الحياة والموت. وبعبارة أخرى، مواقف وصراعات خطيرة للغاية. وفي الوقت نفسه، تظل حقيقة أن أفلام البقاء على قيد الحياة تحظى عمومًا بحب الجمهور، بغض النظر عن مدى الألم الذي تسببه تجربة مشاهدتها. أن العامل الرئيسي لذلك، هو التعاطف الذي يشعر به الجمهور، أثناء مشاهدة مواقف المغامرة والكوارث الخطيرة التي تم تصويرها في هذه الأفلام. إضافةً الى تصوير الشجاعة البشرية والتحمّل والقدرة على مواجهة الصعاب الكبيرة التي تدعم الروح البشرية الشجاعة. إن الاحتفال بالروح الإنسانية التي لا تُقْهرْ، والتي تظهر فجأة في ظل هذه الظروف المرهقة، ينبغي أن يكون في صميم ظاهرة المشاهدة هذه، كما إن معرفة أن بشرًا حقيقيين شاركوا في قصص البقاء هذه من شأنه أن يعطي إضافة إلى سياق تجربة المشاهد، وهذا يعزز مشاعر المشاهد تجاه الشخصيات التي يتم تصويرها في مثل هذه الأفلام.
ومن الأمثلة على ذلك فيلم البقاء على قيد الحياة "العائد"، الذي يستند إلى قصة واقعية مشابهة لقصة حياة الماعز. وبالمثل، فإن فيلم "المنبوذ" هو فيلم آخر لا ينسى من هذا النوع، حيث نرى الشخصية التي يلعبها الممثل توم هانكس وهي تكافح من أجل البقاء ضد الصعاب المريرة جراء حادث طائرة، مما أدى إلى هبوطه في جزيرة مهجورة. لقد كان أداء هانكس في هذا الفيلم دقيقاً ورائعاً بطريقة مفجعة. في فيلم حياة الماعز، كان أداء الممثل "بريثفيراج" وبنفس القدرأيضاً، أداءاً دقيقاً ومتفانياً. لقد فقد 36 كيلوغراماً من وزنه ليصبح ملائماً لشخصية "نجيب" في الفيلم، وهي شهادة على عمله الجاد وتفانيه.
لقد لَعِبَ "هانكس" دور "تشاك نولاند"، وهو محلل أنظمة تنفيذي يسافر حول العالم. وعندما تتحطم الطائرة في جنوب المحيط الهادئ، يجد نفسه وحيدًا على جزيرة مهجورة، حيث يكافح من أجل البقاء في كل منعطف. وهنا يأخذ الفيلم الجمهور في رحلة عاطفية، يجعلهم يتعاطفون مع البطل مرارًا وتكرارًا من خلال مشاهدتهم للفيلم. ويمكننا أيضًا القول إن هانكس يحمل الفيلم بأكمله بمفرده تقريبًا. لقد أصبح الفيلم مثالا رائعا على كيفية - وإلى أي مدى – بقاء المرء قوياً حتى عندما يفقد كل شيء. تذكرنا هذه الروح، عندما نسمع كلمات إبراهيم قديري في "حياة الماعز" عندما يقول لنجيب أثناء رحلة الهروب: "يجب أن نسير حتى نموت".
على الجانب التقني، يكثّف مهندس الصوت المعروف "رسول بوكوتي" والمؤلف الموسيقي "رحمان" إمكانياتهما وتجربتهما من خلال هذا الفلم. فبينما تبدو أغنية "بيرون رحماني" وكأنها صلاة و رثاء، فمن الواضح أن بليسي يضع جهود " نجيب" القائمة على النجاة في خلفية هذه الأغنية. من خلال كل هذا، ينقل المخرج أيضا الديناميكيات الوجودية لقوة نجيب الداخلية، والتي تتجذر في روحانيته. أما شخصيات الفيلم، فلابد من الإشادة بالممثل جيمي جان لويس وحضوره الذي لا يُنسى من خلال تجسيده لشخصية "إبراهيم قديري"، وبالمثل، فأن المخرج كان صائباً عندما أعطى الفرصة للممثل "جوكول" بتجسيد دور "حكيم"، إضافةً الى الممثلة "أمالا بول" التي تلعب دور "زينو" زوجة نجيب، التي تؤمّنْ مصيرهما وتذكّرنا بـ "الحياة المائية" لنجيب في وطنه. أما المصوّر السينمائي "سونيل إس" فقد جعل اللغة البصرية لفيلم حياة الماعز، نموذجًا كلاسيكيًا جميلًا للغة التي يحملها قلب المخرج "بليسي". في المشهد الذي تهاجم فيه النسور نجيب وكذلك في المشهد الذي يظهر فيه نجيب وهو يحتفل بينما يذهب "أرباب" لحضور حفل الزفاف، تتضح الصنعة والمهارة الإخراجية لدى بليسي. كما أن الوجود المستمر والمزعج للعاصفة الرملية الصحراوية في الفلم، وبأصواتها البشعة، يعطي أيضا صورة حقيقية لمهارات وإمكانيات بليسي الإخراجية.
بين حياة الماء وحياة الصحراء
يصوّر "بليسي" في حياة الماعز، موت "حكيم" والاختفاء غير المتوقع لإبراهيم قديري بشكل أكثر كثافة من الرواية. كما يوفر الفيلم لنجيب الذي يجسّد دوره " بريثفيراج" حياة صحراوية موازية، تتسم بالوحدة التي لا يمكن تصوّرها. ويتّضح تصوير حياة نجيب المنعزلة في الرواية بشكل واضح عندما يبدأ في منح الماعز أسماء أحبائه في البيت وفي قريته. أما في الفيلم، فأن "بليسي" يصوّرهذا من خلال صرخة (حمل أسود) يسعى لمساعدة نجيب، وكذلك من خلال عيون الجمل الرقيقة التي تنظر إليه. ومن خلال هذين السياقين الصغيرين، يقنعنا المخرج بالتجربة التي تذيب القلب لوجود نجيب والتي لا يمكن وصفها بالكلمات. وبالعودة إلى أفلام المخرج وخزينه الفني ككل، لا يمكننا تجاوزالملاحظة التي تبديها شرائح كبيرة من المشاهدين بأن هذه الأفلام بمثابة مختبر للعواطف الإنسانية الخفيّة، وفلم حياة الماعز هو مثال صارخ آخر على ذلك. كما أنه لابد من الإشارة الى أنه وعلى عكس الرواية، لا يقدم الفيلم وجهة نظر دينية ولا يصور الموقف وفق هذا المنظور.
إن جميع شخصيات الفلم هي نماذج بشرية للخير والشر. و في هذا السياق، فأنه من الصعب أيضا فهم سبب وكيفية حظر الفيلم في بعض الدول. على العكس من ذلك، فإن مسار هذا الفيلم يتم التحكم فيه وتحديده بشكل غير مباشر من خلال حقيقة أن هناك "شخصاً عربياً ما" محتال يخدع ويستغل شابين "مالاياليين" ليس لديهما معرفة باللغة. إنه مشهد أخير لا ينسى في الفيلم عندما ينفجر نجيب في البكاء عندما أدرك أنه كان يعيش حياة أخرى ليست حياته بل هي حياة لشخص آخر. لا يوجد مجال هنا للتعميم بأن جميع الكفلاء لصوص أو أنهم جميعا قديسون. في واقع الأمر، تبقى الحقيقة في أن منطقة الخليج هي مكان عمل للكثير من المغتربين، و في تناقض مباشر مع سلوك "رب العمل" لنجيب، هناك أيضا وبالضد من كل ما يقال، العربي اللطيف الذي يأخذه من الطريق في سيارته ويقوده إلى المدينة.
على أية حال، يكشف فيلم "حياة الماعز" بوضوح عن صراع وكفاح المخرج بليسي المتواصل الذي دام 16 عامًا منذ فيلمه الأخير "كالي مانو" وظهور إبداعه من خلال هذه الصراعات. إن فيلم "حياة الماعز" ليس مجرّد تصوير لقصة نجاة "نجيب" وبقاءه على قيد الحياة، بل هو علامة على بقاء الإبداع الفني للمخرج بليسي، لأن ما نشاهده في فيلم "حياة الماعز" ما هو إلا إستكمالاً لرحلته نحو تحقيق حلمه، والتغلب على العقبات الصعبة، دون كلل أواستسلام.
المصدر: موقع ذي أيديم
Formulärets överkant
Formulärets nederkant
فلم حياة الماعز: تاريخ الوجود البشري الرهيب
نشر في: 28 نوفمبر, 2024: 12:02 ص