طالب عبد العزيز
أخيراً تعرّف العراقيون من كردستان الى الناصرية والعمارة على أهمية بحر البصرة في تكوين سلة غذائهم، بعد أنْ دخلت اسماك الفاو مطبخ الاسرة، وصاروا يتطعمون طبق السمك البحريّ (الفريش) هم الذين لم يعرفوا غير اسماك نهري دجلة والفرات والاهوار والمستورد المجمّد، المخزون في ثلاجاتهم، ذلك بفضل الصيّاد البصري، الذي صار يقتحم ويغامر مرتحلاً بقاربه محليِّ الصنع في العمق البحري، هناك في البعيد، البعيد عند سواحل الكويت والامارات والسعودية وإيران مستعيداً بذلك جزءاً من طرق عيش آبائه وأجداده.
لكن، هل عملت الحكومة العراقية الفدرالية والمحلية شيئاً ذا معنى له؟ يقول الصيادون: لا! أبداً، ساعة يلتقون في عرض البحر بأقرانهم الصيادين من العرب والعجم، ويبدأون حديثهم من مرسى سفنهم، التي يسمونها النكعة، الموقع الذي اتخذوه مربطاً ومنطلقاً لقواربهم، فهو مما لا تنطبق عليهم صفة ميناء أو مرسى. قطعة بين الماء واليابسة اتخذوها لتكون موقعاً لانطلاقتهم وعودتهم، كل شيء فيه بدائي، على خلاف ما يشاهدونه في المرسى المقابل لهم في عبادان، حيث عملت الحكومة للصيادين ما يحفظ حياتهم وكرامتهم هناك، أما إذا قورن مرسى الفاو بما هو في الكويت والسعودية والامارات فسيكون الحديث عيباً وعوقاً فكرياً.
معلوم أن الجيش الإيراني كان قد احتلَّ شبه جزيرة الفاو في 1986 وأقام جسراً حديدياً طويلاً عند مدخل شط العرب، وأنَّ الجيش العراقي حرر الفاو في 17 نيسان 1988 لكنَّ أنقاض الجسر من جهة الفاو ما زالت ماثلة الى اليوم، وتشكل عائقاً ملاحياً لحركة السفن والقوارب، فيما خلت الجهة الإيرانية من أيّ أنقاض. يشاهد مستعمل الشط في رحلته بين البصرة والفاو العشرات من القطع البحرية الغريقة في شط العرب حتى نقطة نهايته في رأس البيشة، ويرى ساحلاً مهملاً لم تمتد له يد العناية فيما يرى الجهة الإيرانية نظيفةً، سالكة لسفن النقل والصيادين، ولسان حالهم يقول: لماذا؟
يحار الصيادون بالبصرة في عمليات تصليح قواربهم، فلا مسفن ولا مزلق لذلك، ويعمدون الى الطرق البدائية جداً في التسفين على الشاطئ الطيني، بين الاحراش والقطع الهالكة، فلا سكك ولا سلاسل ولا مساند ولا مخدات، عمل أقرب الى الفوضى والجنون، وجهد لا يقارن بما بين ايدي الحكومة من مال وسلطات، وهم غرباء في مواجهة مصائرهم، يبحرون بسفن صنعت من خردة الحروب والسفن القديمة التي يهملها مهربو النفط أو من التي تم صنعها في ورشات تصليح السيارات، بصناعية حمدان، سفن تفتقد لأبسط مقومات السلامة، حديد هالك، وأدوات صيد بدائية، وبلا وسائل اتصال.
كلُّ القوارب والسفن التي يستعملها الصيادون العرب والعجم ويبحرون بها في العمق المائي خفيفة وسريعة لأنها مصنوعة من الفايبركلاس إلا لنجات الصياد العراقي فهي ثقيلة وبطيئة وغير آمنة لأنها من الحديد وأيِّ حديد، تتكرم الحكومة فتبيع عليهم برميل الكاز بـ 120 ألف دينار، وتتهمهم ببيعها عرض البحر، فيما لا يكلف برميل الكاز المباع للصياد الإيراني نصف المبلغ ذاك. ولعل أسوأ ما يشاهده البحار هو نقطة شرطة الجمرك التي تمنح البحّارة تأشيرة الإبحار مقابل 25 ألف دينار بلا وصل طبعاً، هل سيكون القارئ بحاجة الى وصف نقطة شرطة الحدود؟ اليه: لم تكلف مديرية شرطة الحدود نفسها بإقامة مبنى من الطابوق والاسمنت يسمح لرجالها بحفظ كرامتهم، وأداء واجباتهم، كما هو معمول به في المخافر الحدودية في العالم إنما أقامت النقطة على أنقاض سفينة غريقة، هي من مخلفات الحرب مع الكويت والامريكان، مكان لا يمت بصلة الى العمل البحري، وتعامل هو الأسوأ في الخلجان، يستوفي الشرطة أموالاً غير معلومة من الصيادين، لا ضابط لها، فهي بلا وصولات قبض، ورجالها غير مسؤولين عن سلامة البحارة واحتياجاتهم قبل الإبحار وبعده.
ما يحدث في بحر البصرة بحاجة الى عناية مسؤولة، هناك تفريط بحياة الصيادين المغامرين يتوجب التنبيه له، وهم فريق مساهم في تلبية حاجة سلة الغذاء العراقية، تقتلهم الحسرات وتنبت في أرواحهم اشواك اليأس.