ترجمة: أحمد الزبيدي
يأخذنا الكاتب سيمون باركين (كاتب إنكليزي له اربعة كتب وهو نافد أدبي أيضا) الى مدينة لينينغراد،التي كانت تعيش في عام 1942. تحت وطأة الحصار القاسي الذي فرضه الجيش الألماني عليها. حين أعلن هتلر أنه يجب جعلها غير صالحة للعيش وأن يتم تسويتها بالأرض. ضرب الجيش الألماني طوقا فولاذيا حول المدينة بغية عدم السماح بدخول أي نوع من الطعام اليها، وبات سكانها البالغ عددهم أنذاك ثلاثة ملايين شخص يموتون جوعًا. واصبجت شوارعها مكدسة بالجثث الهزيلة. ورغم ذلك، كان فيها قصر يعود الى الحقبة القيصرية يقع في وسط المدينة، بالقرب من متحف الإرميتاج، يضم مستودعًا كبيرًا للحبوب ودرنات البطاطا وأنواع أخرى من النباتات، وقد شهد هذا الموقع على مدار عدة عقود اجراء الكثير من البحوث عن النباتات من قبل بعض من أبرز علماء النبات في ذلك العصر. وكان يعتبر أول بنك للبذور في العالم. وكانت القضية التي واجهت العلماء الذين يعملون فيه آنذاك هي ماذا سيفعلون بهذا المخزون الكبير؟ هل يتوجب عليهم القيام بحمايته والحفاظ عليه، مع احتمال وجود محاصيل عالية الغلة ومقاومة للأمراض لإطعام الأجيال القادمة؟ أم تناوله لسد جوعهم وجوع الآخرين؟
تقشكل هذه المعضلة الأخلاقية جوهر كتاب سيمون باركين "حديقة لينينغراد المحرمة"، فهو يسرد تاريخ معهد النبات أثناء الحصار، الذي دام ما يقرب من 900 يوم، من عام 1941 إلى عام 1944. فإضافة لتواجد 3 ملايين ساكن بها، ضمت لينينغراد مركز أسطول البلطيق السوفيتي واحتوت على مئات المصانع. وبسبب ذلك، وصفت الأخيرة بثاني أهم مدينة سوفيتية بعد العاصمة موسكو. ومع بداية الاجتياح الألماني، تعاون أهالي لينينغراد على بناء أعداد كبيرة من الخنادق المحصنة للدفاع عن المدينة ضمن حركة وصفت بالبطولية. وبسبب قلة خبرتها ونقص العتاد العسكري، تلقت قوات الجيش الأحمر السوفيتي، المدعومة بفرق المتطوعين، هزائم عديدة خسرت على إثرها مناطق هامة متاخمة للينينغراد.وكما هو متوقع من باركين،، فهو يقدم لنا مؤلفاً غنياً بالبحث ودقيق الملاحظة لزاوية من تاريخ القرن العشرين لم يتم استكشافها إلا قليلاً.
نتعرف في البداية على نيكولاي فافيلوف، عالم النبات الروسي اللامع الذي يقف وراء مشروع انشاء بنك البذور. كان فافيلوف في ذلك الوقت يعادل في عصره كبار علماء النباتات في العصر الذهبي لعلم النبات، مثل كارل لينيوس وجوزيف بانكس وألكسندر فون همبولت، الذين درسوا آلاف العينات النباتية التي لم تكن معروفة من قبل. كما سافر فافيلوف حول العالم بحثًا عن أنواع نباتية نادرة، وعاد ببذورها إلى ذلك القصر وكان هدفه تطوير سلالات جديدة من "المحاصيل الفائقة" الهجينة التي من شأنها أن تقضي على المجاعة، والتي كانت قضية ملحة في الاتحاد السوفييتي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
بعد اختفاء هذا العالم الذي يعد الزعيم الملهم للعاملين في معهد النبات، واصلوا العمل بتفان وإخلاص وبكل ما في وسعهم،. في ايلول 1941، بدأ الألمان بفرض الحصار على مدينة لينينغراد. وتاريخ هذا الحصار مكتوب عنه الكثير، لكن المؤلف ينظر إليه من خلال عدسة موظفي المعهد، الذين أظهروا تفانيًا يقترب من الخيال في الحفاظ على عينات النباتات. فكان يتوجب عليهم تجديد الأجزاء الأكثر قابلية للتلف من المجموعة، و إعادة زراعة البذور وإعادة حصادها. واختاروا لذلك احد الحقول ذو التربة الخصبة، ولكن هذا الحقل كان في مرمى قناصة ومدفعية الألمان. الأمر الذي تسبب بمقتل العديد من الناس، بما في ذلك ستة عمال زراعيين في حادث واحد.
لا أحد يشك في بطولة العلماء والعاملين في المعهد، ولكن هذه القصص وغيرها تثير التساؤل حول ما إذا كان تفانيهم في التعامل مع العينات كان مناسبًا تمامًا، أو ما إذا كان من الممكن استخدام العناصر الغذائية في بنك البذور بشكل أفضل لإنقاذ الجوعى بدلاً من ذلك.، يذكر المؤلف أنه بحلول عام 1979، تم زرع ثلث الأراضي الصالحة للزراعة في الاتحاد السوفيتي ببذور مأخوذة من المجموعة التي كانت في المعهد. ولكن بدون وجود دراسة مقارنة للحبوب التي لم تنحدر من تلك الموجودة في المعهد، فمن المؤكد أنه من الصعب تقييم تأثيرها.
بعد انتهاء الحرب توجه احد الصحفيين بسؤال الى علماء المعهد: ولكن لماذا اخترتم أن تموتوا جوعاً وأنتم محاطون بالطعام؟ بدا أولئك العلماء في حيرة من أمرهم. اجابه العالم فاديم ليخنوفيتش، الذي قضى معظم فترة الحصار محاولاً حماية مجموعة البطاطس في المعهد من نيران القذائف الألمانية: رغم أن المجاعة التي عشناها كانت تعني "صعوبة لا تطاق في النهوض كل صباح [وتحريك يديك وقدميك]"، فإن الامتناع عن أكل ذلك الطعام لم يكن صعباً على الإطلاق. أضاف: "كان من المستحيل أن تأكل نتاج العمل الذي أفنيت فيه حياتك، أنت و أصدقائك وزملائك ". لقد اتخذ العلماء قراراً عقلانياً، في تفضيل حماية إرثهم على حياتهم.
عن الغارديان
حديقة لينينغراد المحرّمة
كتاب عن أيام الحصار القاسي للمدينة
نشر في: 1 ديسمبر, 2024: 12:02 ص