TOP

جريدة المدى > عام > ثرفانتس مؤاخِذًا

ثرفانتس مؤاخِذًا

نشر في: 1 ديسمبر, 2024: 12:03 ص

د. نادية هناوي
لا يوجد نص أدبي واقعيته محضة تستنسخ العالم مئة بالمئة، ولكن يمكن لنص أن تكون خياليته محضة، تخالف العالم بنسبة كبيرة. وإذا كان تكذيب غير المعقول فعلا عقلانيا، فإن التحبيك هو الفعل العقلاني الذي به يصبح سرد ما هو غير معقول مقبولا ومنطقيا. ومن هنا يُنتفى الكذب الوقائعي ويُنظر إليه كصدق فني. وهو أمر تفرضه شعرية الأدب وبلاغة القص. والاقتناع بأحداث القصة غير الواقعية يعني أن تحبيك السرد أدى مهمته في لا محاكاة العالم الواقعي.
والغاية من اللامحاكاة هي التحرر من الأوهام من خلال اختلاق نص خيالي يتحول بالحبكة إلى نص واقعي يعبر عن رغبات غير معلنة ووجهات نظر مختلفة، تقبل التفسير والتأويل على وفق فرضية التخييل الذي فيه كل شيء ممكن بمرونة التسلسل الزمني كاسترجاع واستباق وبحضور عنصر المفاجأة والدهشة وبتوظيف المفارقة والباروديا والتراجيديا وغيرها. ولا خلاف في أن توظيف اللامحاكاة لا يقتصر على الكتابات الأدبية، بل هو يوظف أيضا في الكتابات التاريخية.
ويعج كتاب ثرفانتس(دون كيخوته) – وقد عد النقاد الغربيون هذا الكتاب رواية - بسرد تاريخي غير واقعي هو نتيجة لا محاكاة وقائع الزمان الماضي عبر استحضار أحداث وشخصيات مستحيلة، وعن ذلك يقول السارد:(كم من تواريخنا (قصصنا) حافل بهذه العجائب) وتظل الأمثلة كثيرة على توظيف اللامحاكاة في السرد غير الواقعي الذي فيه يكون الإنسان وحشا، والحيوان عاقلا. وكلما ازدادت درجة التضاد في عملية محاكاة الواقع التاريخي ارتفع معها دور الحبكة في تمتين السرد غير الواقعي من ناحية الاقتناع والتصديق(هذا تاريخي.. وكان بودي أن أرويه لكم على نحو موجز) وبهذا تصبح الرواية هي تاريخ ما يكون، ويصبح التاريخ هو رواية ما كان. وبالتحبيك تغدو كل هذه الصور المستحيلة محتملة كسرد واقعي، تتخلله مشاهد تاريخية تعكس بمجموعها وجهة نظر إيديولوجية فيها ثرفانتس متعصب عرقيا ومنحاز دينيا بشكل لا يقبل الشك.
وقد تأتي وجهة النظر في شكل تعليقات بها يؤاخذ ثرفانتس سارد القصة الضمنية حامد بن الايلي على توظيف(اللامحاكاة) وكأنه -أي ثرفانتس- يؤاخذ السرد العربي القديم كله على لا واقعيته. ولعل أطول التعليقات التي فيها تتضح وجهة نظره الايديولوجية تتمثل في قوله: (وأي عقل إذا لم يكن عقلا همجيا يمكن أن يقتنع حين يقرأ أن برجا عاليا مليئا بالفرسان يسبح في عرض البحر. إن الخرافات تكون أحسن وأمتع كلما ازدادت قربا من الحقيقة واندرجت في نطاق الأمور الممكنة…)
وبسبب وجهة النظر هذه بدت بعض الأقوال مصطنعة لا تتناسب وطبيعة الشخصية التي تتكلم. ونضرب على ذلك مثلا بما وضعه السارد على لسان العربي المغربي الذي أخذ بالثناء على أفعال فيليب الثاني الوحشية تجاه العرب الأندلسيين. إذ أن في هذا تضادا واضحا فضلا عن كونه يحمِّل الشخصيات ما لا تَحتمل من الأقوال. ولهذا شكك النقاد في نسبة الرواية الى ثرفانتس وأنها ربما كتبت بأكثر من قلم. ونرى في هذا دليلا آخر يؤكد أن المخطوطة مكتوبة على وفق تقاليد السرد العربي، مهجنة بنص سردي إطاري واقعي يجعلها تبدو في شكل متخيل تاريخي. وما أن يتدخل ثرفانتس في سرد المخطوطة حتى يغدو التحريف والدس واضحين بلا خفاء، بوصف المؤلف هو الناقل وليس المنشئ، وإلا كيف يكتب ثرفانتس نصاً على وفق تقاليد لا يؤمن بها ثم يأتي ويعترض على تلك التقاليد بل ويسفهها ويتعالى عليها وينتقص مؤسسها؟!
ومن دعائم ما تقدم كثرة استعمال الخرق والتعطيل، مما يجعل النص غير معقول، بيد أن معقولية التحبيك السردي هي التي حوّلت المستحيل وقوعه على أرض الواقع إلى ممكن الوقوع داخل الكون السردي. والبطل في (دون كيخوته) فاعل سردي عاقل لكنه يؤدي أفعالا غير معقولة تخرق المعتاد وتعطل المألوف. والغاية من توظيف الخرق والتعطيل هي تأكيد قيم الخير وتوجيه النفوس نحوها ونبذ الشر وصوره. ولقد وصف النقاد أفعال البطل بالجنونية على المستوى الموضوعي وقصته بالمتماسكة فنيا بسبب ما فيها من تحبيك سردي. وكان الحكاء العربي قد عرف قبل قرون عدة توظيف الجنون كطريقة لخرق المعتاد وتعطيله فحكى قصصا لا واقعية عن معتوهين ومجانين، ولكن جنون دون كيخوته اعتبره النقاد مؤسِسا لجنس أدبي جديد موضوعه الإنسان ووسيلته التخييل، واطلقوا على هذا الجنس مسمى الرواية.
وكان من تبعات الجنون استعمال التوالي في الفصل بين مقطع قصصي وآخر أو الوصل بين مقطع وآخر باستعمال الفعل(تذكر). وبسبب هذا التوالي السردي تتفرع عن الحبكة الرئيسة حبكات ثانوية وبعضها تحشر حشرا فتتراكم الحوادث بتداخلات حادة وربما انحدارات شديدة فيزداد إيقاع السخرية حتى تكاد الحبكات من تكاثرها أن تنفجر. والسرد غير الواقعي هو المولد لهذا التكاثر كحبكات ثانوية بمتخيلات غير معقولة. وعلى الرغم من تشعب حبكات القصة الضمنية، فإن الحبكة الرئيسة لا تنقطع بل تظل متماسكة تماسكا نصيا يجعل القصة الإطارية متصلة بالقصة الضمنية اتصالا وثيقا، حتى صار كتاب(دون كيخوته) عملا مختلفا ومتفوقا على غيره من روايات القرن السابع عشر.
ومن مظاهر الخرق والتعطيل الهيأة التي يبدو عليها دون كيخوته كبطل يرى ما لا يراه الآخرون(ادخل يا سيدي في هذه الجنة فستجد فيها شموسا جديرة بالسماء التي تصحبك وأسلحة بكل بريقها وجمالا بكل روعته) أو اجتماع المتناقضات في شخصية البطل فهو فارس في سن لا يؤهله أن يكون فارسا وهو مولع بأمرين الصيد والقراءة كما جمع بين العقل الخصب والدماغ الجاف. والسخرية والتهكم هما نتائج توظيف الخرق والتعطيل في شكل مشاهد دراماتيكية عنيفة أو مصورات بانورامية تلخص أجواء السحر والتوتر، وتروى بضمير الغائب في الأغلب.
وقد يقال إن لا معقولية دون كيخوته ليست بسبب الخرق والتعطيل غير الواقعيين، إنما هو انعكاس حياة ثرفانتس المضطربة والحافلة بالمتضادات والمضايقات وبسببها كَتب هذه الرواية كجندي مقاتل وأسير ومتهم وسجين ومدين يطارده دائنوه. ونقول إن هذا الانعكاس ممكن مع كتابة القصة نظرا لقصرها فلا تحتاج من الكاتب استقرارا مكانيا ونفسيا، لكن كتابة الرواية تحتاج ذلك لاسيما رواية مثل(دون كيخوته) كتبت بمئات الصفحات ونشرت على قسمين بينهما عقد من السنين، فضلا عن أن سرفانتس نفسه رفض فاعليتي الخرق والتعطيل وتبرم من الخيال السردي الجامح في أغلب تدخلاته وتعليقاته على سارد القصة الضمنية كقوله:(كان الأرجح إلا يومئ إلى أن لقبه هو كيخانا..والمهم هو إلا نحيد في رواية الوقائع عن الحقيقة قيد أنملة.).
وهذا دليل على أن ثرفانتس يسير على تقاليد لا تتوافق مع أسلوبه القصصي الذي تشهد عليه أعماله السابقة التي هي واقعية وبموضوعات عامة عن الوطن والصداقة والزواج والأخلاق، وعنها قال في مقدمة كتابه(قصص مثالية):(إن طفرات الحب وتباريح العشق التي يمكن ان نجدها في بعضها تمتاز بالعفة والاتزان ولا تتخطى المعيار المسيحي ومن ثم لن تثير الغرائز ولن تجنح بخيال قارئها عن جادة الصواب..)
ومن الجدير ذكره ندرة استعمال ثرفانتس لأية مفردة عربية أو أوصاف أو أمكنة إسلامية في جميع قصصه التي كتبها قبل (دون كيخوته) وفيها كان كثير التمثيل على المجتمع الارستقراطي بكل ما فيه من نبلاء وقساوسة وسيدات وخادمات وبنهايات رومانسية سعيدة باستثناء قصة(رينكوتية وكورتاديو)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

ثرفانتس مؤاخِذًا
عام

ثرفانتس مؤاخِذًا

د. نادية هناويلا يوجد نص أدبي واقعيته محضة تستنسخ العالم مئة بالمئة، ولكن يمكن لنص أن تكون خياليته محضة، تخالف العالم بنسبة كبيرة. وإذا كان تكذيب غير المعقول فعلا عقلانيا، فإن التحبيك هو الفعل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram