حيدر عودة
منذ سنوات لم نشهد في –بغداد- تحديدا أية محاولة لتقديم تجارب تشكيلية تثير الانتباه أو من شأنها الدفع بالعروض والتجارب غير التقليدية إلى مساحات أكبر في التصادم مع الواقع وعرض رؤى جديدة. في المقابل نرى أن قاعات العرض الخاصة ومعها بعض المؤسسات المعنية بالفن التشكيلي ما زالت مستمرة في الحفاظ على التقاليد والأعراف السائدة منذ عشرات السنين في فهم الفن وطرق تقديمه والاحتفاء به، باستثناء بعض المحاولات التي تنقصها الرؤية الواضحة والاستمرارية لتكريس مشروع فني جديد، لكنها لم تبتعد كثيرا عن شروط سوق الفن المريض أصلا، وعن تكرار تجارب فنانين بعينهم أو أساليب معينة واستنساخ تجارب أخرى من قبل بعض طلبة الفن الذين لم يحاولوا الخروج عن معطف الاستاذ.
الحديث يطول عن سوق الفن في العراق تحديدا وما يمر به من أمراض وخمول وتكرار وتسطيح للواقع وطرق التعبير عنه، ناهيك عن تراجع دراسة الفن عموما وطرقه التقليدية. ورغم ذلك حاولت بعض قاعات العروض التشكيلية أن تقترح رؤى تعبيرية مغايرة، عبر فتح فضاءات أخرى للفنانين والتجارب المبتكرة، سواء في طرق العرض أو معالجة المواضيع أو استخدام خامات غير تقليدية لجذب الانتباه لفاعلية الفن وأهميته في تغيير المفاهيم وخلق مسارات متطورة للتعاطي مع الواقع، لكن المحاولات تلك ظلت خجولة، غير متواصلة في مشروعها، وتدفع المشرفين عليها رغبات شخصية وتشوش أفكارهم طلبات السوق والتسويق.
من بين تلك القاعات التي ما زالت تحاول بشكل جاد ترسيخ رؤية فنية واعية لتطوير الفنون ومفاهيمها المتغيرة، من دون التقوقع في منطقة بعينها أو تقديس أساليب ما، أو تعزيز معالجات تقليدية للواقع ورؤى تعكس فهما بسيطا للمهارات وغيرها من مشاكل وإشكاليات المشهد التشكيلي؛ يعمل الفنان -سلام عمر- في قاعته الفنية على تقديم رؤى تشاكس الواقع وتحتج عليه وتقترح تجارب فنية شابة غير متصالحة مع واقع الفن ومشهده التقليدي، عبر فهم -ورشوي- لإنتاج الأعمال الفنية، بما للورشة من جوانب نظرية وتفكير جدلي للواقع وتجريب معالجات مبتكرة عبر المادة وطرق التقديم، التي أصبحت جزء لا يتجزأ من العمل الفني وطرق تلقيه.
في معرض (انتباه) المقام حاليا على قاعة "سلام" قدم مع فنانين اثنين هما: (شيبان أحمد ومحمد سهيل)، أعمالا تباينت في الرؤية الفنية وفي كيفية النظر للواقع والتعبير عنه. فكانت محاولة جيدة لتحريك مياه المشهد التشكيلي التقليدي وسعي جاد لإثارة الحوار والتساؤلات حول مفاهيم الفن وكيفية التعبير عن مشاكل الواقع الخاصة والعامة، وفهم للاسلوب وقوة الرسم أو الأشكال التعبيرية والتقنية، ومساحة التجريب لاحتواء المعنى وطرح الموضوع، وتحقيق القيم الجمالية. فبين احتجاج (سلام عمر) على واجهات المدن وفوضى الكتابات على الجدران الخارجية عبر أسلوب الجرافيك والرسم، مستعينا بالإعلان المجاني والعفوي الذي يواجهنا منظره اليومي في كل مكان تقريبا، بالإضافة إلى أبعاده الاجتماعية والنفسية والجمالية، فقد وفق -سلام- بالتأثير على تفكير المتلقي وزجه في المشكلة، التي تعدت حدودها نحو الظاهرة، في زيادة الخراب المعماري والنفسي الذي نعيش فصوله بغضب وسخرية، وهو ما يؤكده -سلام- في أعماله التي قدمها على شكل عينات دائرية متشظية في عمل واحد عبر ستة وثلاثين لوحة على القماش قطرها 40 سم لكل واحدة. جمع فيها أبرز الكتابات والاعلانات الشخصية في توأمة لفكرة الاعلان وما يمثله من انعكاس لواقع يتساوى فيه هدم البيوت القديمة مع بيع الاراضي الزراعية للاستثمار السكني، ورفع السيارات العاطلة على الطرق مع تاريخ بلد بحاجة للمسة جمال تعيد بريقه وألقه الغابر. وفي نفس الوقت كانت أعماله لقطة من مشهد يومي لا يريد أحد نقله ووضعه على جدران القاعات.
بينما ذهب (شيبان احمد) أبعد من صورة الجدران، إلى جوهر الإنسان وصراعه المستمر مع الوقائع والأحداث، إلى هواجسه الذاتية ومخاوفه من المستقبل الغامض، من خلال لوحة -قصة آدم- بتصورات معاصرة لـ -آدم- واقعي، يعيش معنا ويشعر بمخاوفنا، يتنفس من هوائنا الملوث ويعاني من تأثيرات الحروب، ويبحث كما نبحث عن خلاص نهائي وحلول لمشاكل وجودنا. كما يعالج أفكار الولادة والموت واسرار الوجود ومشاعر الأغتراب. تمتد تصورات "شيبان" عبر لوحتين أخريين عن مظاهر العالم الرأسمالي وفوضى التعامل مع البيئة، والتلوث الناتج عن زحف المصانع نحو كل مناطق الطبيعة ومساحاتها الخضراء، كذلك يعبر عن التلوث العقلي وإعلاء شأن الغرائز وتسويقها بطرق جديدة تثير المخاوف والمخاطر على حياتنا، التي لم تعد تحمل شيئا من السلام أو الخصوصية، فالعالم الآن ينشد البذاءة ويغني لها، تتقدمه مفاهيم السوق المنفلتة وتتصدره فوضى "ترندات" التفاهة البشرية، التي أمرضت كل مفاصل حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا. وهو بتلك الاعمال لم يكن بعيدا عن صورة الواقع في مستوياته المرئية وغير المرئية، فوسع من رؤيته لتمتد أبعد من مشاهدنا العابرة نحو لقطة طويلة لصورة عالم متوحش.
أما (محمد سهيل) فقد لجأ إلى الجزء النقي من حياة الإنسان، عبر الطفولة البريئة، برموزها ومفرداتها -الدمى والالعاب- وألوانها المبهجة الساطعة، وهو يقدم أولى لوحاته التي يدخل عبرها عالم الإحتراف، راصدا أصداءها في خيالات الطفل والذاكرة الجماعية، وما تثيره من مشاعر الألفة، التي تخفف من صورة الواقع وتزايد فوضى التواصل والعلاقات غير البريئة في عالم لا يبدو بريئا. فتلك المفردات التي ترمز للطفولة ممتلئة بالرغبات شديدة الوضوح، في محاولة لإستعادة لحظاتها المبهجة وعوالمها الساحرة وخيالاتها الرحبة، حتى ليبدو (سهيل) نفسه مفردة تتجول بين عالم الدمى والمركبات، يتقافز بين ألوانها ويستلقي لتأمل مشاعره غير المرتوية من طفولة مرت بسرعة. ثمة نزوع واضح في لوحتيه المشاركتين في المعرض نحو العودة إلى البدايات النقية ومصالحة الذات التي تتقاذفها أمواج الواقع القاسية. لكنها في الوقت ذاته قد تنطوي على تناقض، حين نجري مقارنة بينها وبين صورة الواقع ذاته بفوضاه وتناقضاته أيضا! ربما أراد من اختياره لموضوع الطفولة ومفرداتها من دمى وألعاب أن يحيي مشاعر الطفولة، عبر رسم رموزها بإسلوب واقعي لا يخلو من ابراز مهاراته الفنية. وربما كانت هذه الاستعادة المفترضة للطفولة لتأكيد مشاعر السخرية الجارحة لعالم بات متخيلا أكثر من أي وقت آخر، وصاخبا أكثر من أي وقت آخر، حين فارقته الطمأنينة وغاب عنه الأمان.
إلى جانب المتعة الجمالية والفكرية وطرح الاسئلة، وخلق الحوارات المثمرة حول مشاكل الواقع ودور الفن والفنان في التعبير عنها؛ جاء هذا المعرض ثمرة لجهود الفنانين المشاركين واصرارهم على تصوير الواقع فنيا بلا تزييف أو تزويق، وتقديمه بطرق متباينة ومعالجات فنية تحاور العين والعقل والمشاعر، وايجاد أفضل التصورات لفهم العمل الفني وتحولاته المتغيرة، واظهار الجانب المخفي من الواقع.
في معرض(انتباه): ثلاث رؤى تثير الانتباه
نشر في: 2 ديسمبر, 2024: 12:03 ص