طالب عبد العزيز
حتى وهو يطرقُ المسمارَ كانت عينُه زرقاءَ صانعُ أقفال الحدائق، حتى وهو يأخذها الى السرير ظلت يدهُ ممسكةً بزهرة عبّاد الشمس، حتى وهي ترفعه الى قِرطها البارد لم تنس الطريقَ الى بيته وأنَّها بقناطر ثلاث. كلُّ الذين تحدثوا عن خيلائه كانوا يظنّونه ضابطاً في البحرية، مع أنه لم يرَ البحر إلّا مرةً واحدة، المرأة التي كانت معه لا تُرشدُ النساءَ الى مصفف شعرها، أمّا الريح التي ترفع تنورتها فهي التي لم تأت بعد.
لم يعد الوقتُ متاحاً، جرجرتِ الغابةُ عربةَ الضوء حتى النهايةِ السعيدةِ للياسمين، وأنِسَ الفلاحون بجنيهم، التمرُ والقمحُ في سِيف الطعام، والحطبُ حِزمٌ فوق أُخَرَ لا ينوشها المطرُ، وحبّاتُ اليقطين اليابسة باردةً تلوذ بأعناقها عند الموقد. كان الشتاءُ يطردُ غييّماتِ الخريف العاطل في الباقلاء، ومن قنِّ الدجاج تُسمعُ قوقأةُ الفِراخ. الجروُّ الأبيضُ يحدِّقُ بالجروِّ الأسود، والكلبة تلهثُ مع أنَّ طعامَها ليس ببعيد. تعلّمتُ أنْ أفتحَ زجاجةَ الدواء، وأبي هو مَنْ وضع القفلَ في الزريبة، ثم أمرني أنْ أديره ناحيةَ الشمال.
تُحْكِمُ غلقَ البابِ كأنْ لا أحدَ يدخل، تكتبُ وصيّةَ منْ لا يملكُ إلّا الأفقَ إرثاَ لخياله، ولا تموت، تنتظرُ عُوّداً! ما أنتَ بمريضٍ، ترتدي ثوباً أزرقَ والبحرُ هامدٌ يجثو بينَ قدميك، تأخذكَ الأرضُ الى ميقاتِها وتعودُ بيدين داميتين، لِمَ أذنتَ لها. كانَ الهواءُ ينتظرُ تحت كتيبة الباب رطْباً. وأنت تحررُ الفانوسَ من قبضة الظلام خذْ قميصها الى مشجب الوقت، سريركَ مغطىً برائحة زيت الخِروع، ومن ظهرك ينسلُّ غلامٌ لا يُشبهك في الطمأنينة والخوف. أغلقتَ غابةَ النخل وراءك، أكنتَ تستعجلُ الشمسَ مغيبا؟ على أيٍّ منْ أسبابكَ أوقفتَ نهرَك بمائه القديم، وبأيِّ فاختةٍ يبلغُ الفجرُ مُراده بقلبك هذا اليوم؟ من أيِّ الشاطئين ستندفعُ السلاحفُ الى اليابسة؟ تقولُ إنَّك ورثتَ عن أبيك حائطَ نخل، وإنَّ المناجلَ تنشغلُ بأسنانها بعيداً عن السعفِ في الليل.
المسحاةُ التي ركلتها الأرجُلُ أمس، بَرتها العُروقُ أيضاً، والمِذراةُ حتى بارئها صاعدةً تبكي الريح، وصوتٌ من يمين النهر يترققُ في الأترجّ، ولا يبين، أنتَ روحٌ بيضاءُ تناهبتها الشماريخ. تغيبُ كأنكَ نصفُ الأمل، وتأتي كأنك بقيا الملامة، تخطفُ في الفسائل، وتتلفتُ في الغياب، ويجيئك المطرُ من أفانينه عشراً، ولا إربَ لكَ في واحدةٍ، يقدُّ النومُ قميصَك، فلا ينخرمُ الهواء، أنت الوهاد التي تأنسُ بالوحش. تكتبُ أَمَةٌ في كتابِ التاريخ لسيّدها: تعالَ يا سيديّ الأبيض، مرّغْ حَلمتيَ بالرّخام الذي قدَّ منه جسدُك، معاً سنشيِّعُ الفاحشةَ الى مثواها الأخير.
الصبيُّ يؤرخُ لحظتَه في محترفِ هاتفه، ينعمُ النظرَ بتسريحةِ شَعْره، عالياً يرفعُ ذراعه اليمين، ويعيدُ شكل ابتسامته ثانيةً وثالثة، كانت شجرةُ الأكاسيا تزهرُ في الصورة، التي بعثَ بها لحبيبته. تحت الشمس الباردة، في شرفة الفندق حيث تشربُ قهوتك، لا معنى لحديثك عن الخيول، حيث لا أحدَ يعدو في خيالك.
لو أنّكِ تركتِ كوبَ الحليب على الطاولة لأطعمتُ النافذةَ بقيّةَ صوتِ الرّيح، لو أنَّ قِدْرَ المكرونةِ بغطائهِ الفضيِّ ما يزال لقرّبتُ السكّينَ من يدك، كيما تجرحي الهواءَ الذي يضيق بيننا، أنتِ ببنطلونك الجينز تجعلينَ السريرَ ناحلاً، وأنا أقتربُ من نهايةِ القصيدة بسحّابٍ لا نهايةَ له.