طالب عبد العزيز
أيئستَ من انتصار أهلك بغزة؟ أما زال قلبك يتفطرُ كلَّ يوم بسماع أخبارهم؟ أحزين على ما حدث بجنوب لبنان؟ أيمكنك أنْ تشيحَ بوجهك عمّا يحدث في سوريا؟ أمرعوبٌ بما قد يحدث في العراق؟ أتنتظر شيئاً يحدث أكبر من هذا؟ نعم، أنا كلُّ ذلك اليأس والالم والحزن والرعب والانتظار والله! ذلك لأنَّ الأنظمة أبيضها وأحمرها وأصفرها وأخضرها وبكل ألوانها على ارض العرب قذرة وخائنة وعميلة، وأنَّ الديكتاتوريات والملكيات والرئاسات والاسر الحاكمة في العواصم القديمة والجديدة لم تترك لي ما يمنعني عن احتقارها. ترى، ماذا أفعل؟
مثلُ كلِّ السوريين لن أذرف دمعة واحدةً على رحيل آخر بشّار في أسرة الأسد، مثلما لم أذرف دمعة واحدةً على رحيل آخر صدام في حزب البعث، ولن أذرف دمعة واحدة على رحيل أيِّ زعيم حزب دينيّ اليوم أو الغد، فهم وراء ما حدث ويحدث في مشرقنا العربي. إذا كان الملوك والرؤساء الطغاة الدكتاتوريون قد سمموا حياتنا، وأذلونا، وانتهكوا حرماتنا، وجعلوا أيامنا مظلمة، وجعنا وعرينا وفجعنا بأعزِّ أهلينا، وكنا نخاف من أولادنا ونسائنا وجيراننا في أزمنتهم فقد مزّقَ زعماءُ الأحزاب الدينية والطائفية نسيجنا الاجتماعي، وسرقوا حياتنا باسم اسلامهم الكاذب، وشوهوا طفولتنا، وأكرهونا في اسرنا، حتى صرنا نخشى على بناتنا منهم، وعلى أولادنا من جهلهم، وعلى أموالنا من أيديهم، وعلى بيئتنا من خرابهم، وعلى ربنا من قسوتهم، وعلى نبيينا من أسمائهم، أرجعونا الى ما غادرته شعوب الأرض من التخلف والخرافات، وأوثقوا مصائرنا الى نوق وحمير عقولهم عن أيٍّ من أفعالهم أحدثك؟
تجلسُ وحدكَ، تريد أنْ تنأى بنفسك عن هؤلاء وهؤلاء، وعن البلاد التي انبتتك، وحملتك، وأطعمتك، وغذّت روحك، عن تاريخها، وماضيها ومستقبلها، وعن حلوها ومرّها، عن شموسها واقمارها واشجارها وعن كلِّ شيء فيها، معتقداً أنَّ في ذلك خلاصك! أنْ فيه نهاية حزنك.. لكن، الى اين ستذهب؟ وأيّ الجهات من الأرض تصلح وطناً لما ظلَّ فيك من المباهج والآلام؟ وهل سيكون بمقدورك حمل حقيبة أكبر من حقيبة الفقد والهزيمة والتنكر والخسران؟ تبحث عن لقمة أخيرة، وعن فراش أخير، وعن امرأة أخيرة، وعن حانة صغيرة أخيرة، وعن قارب أخير؟ أقادرٌ أنت على مطالعة لوائح مواعيد اقلاع الطائرات، ووصول القطارات؟ وهل تبصر في المدن الجديدة ما هو جديد فعلاً، وهبك كنت قادراً، مقتدراً! من ستصحبُ من أصدقائك الكهول وهم يزدادون عُصياً وعكازات، وهم لا يجدون بين شفاههم إلا ما يخوضون فيه من حديث الفياغرا والنساء المتوهمات!
يكذب عليك المعلن على اللوح الأزرق عن علاج تهيّج القولون فتصدقه، ومثله تفعل مع المعلن عن علاج تصحيح النظر، وكذلك يفعل بك بائع العطور والملابس والاحذية.. تتردد في البداية لكنك سرعان ما تنصاع لهذا وذاك، معتقداً بأنَّ ما تصلحه في بطنك وعينك ورقبتك وقدمك سيجعل من حياتك حياةً ثانيةً، أو هي مما يشبه ما تطالعه في لوحات المعلنين الزرق. واضح أنك تنشغل بجسدك أكثر من انشغالك بقضايا الامة وحروبها وهزائمها وانتصارات رجالاتها الوهميين، ذلك لأنك تعلم بأنهم أفسدوا حياتك عليك، وضيقوا من فتحة الامل في روحك، وأنهم شغلوك بجسدك لكيلا تشغلهم بك، لذا، أرجوك وأنت تجرجر آخر عظامك الى السرير لا تنسى قرص المنوم، خذه، فلن تشرق شمسُ الغد على شيء يستحق حياتك وألمك وغضبك وضياعك بعد أنْ سمم الهؤلاءُ كلَّ شيء حولك. نم يا عزيزي نم، نم.