لطفية الدليمي
نعيشُ في عصرنا الحالي وسط بيئة ضوضائية صار معها الكائن البشري يعاني -رغماُ عنه- شيزوفرينيا ضوضائية. الضوضاء تحيطنا كلّ آن وكلّ مكان. لا مهرب لنا من هذه البيئة الضوضائية حتى ونحنُ في غرف نومنا، ولم نعدْ نمتلكُ رفاهية طيّب الذكر (كانْتْ) حيثُ التمشّي وحيداً لمسافات طويلة في عمق الغابات يستطيعُ شفاء اعتلالات النفس. نحنُ اليوم عناصرُ ارتباطٍ آنية في شبكة تواصلية، تنهمرُ علينا كلّ الوقت بياناتٌ ومعلوماتٌ ومعرفةٌ من شتى الألوان والأصناف، سيّئة الشأن ورفيعته معاً. فكّرْ معي: هل تستطيعُ الإختلاء مع أفكارك الخاصة لساعة متّصلة من غير تشويش خارجي؟ ستقول لي: سأطفئ حاسوبي أو هاتفي النقّال. أنت ستطفؤه؛ لكنّ كثرةً سواك لن يطفؤوه. ستقول: ٍسأمكثُ وحيداً في غرفتي من غير صحبة أجهزة رقمية أو بشر. لن ينجح الأمر. ستعاني حتماً من أعراض الإنسحاب الرقمي. هل نسيت ما يصيبك من جزع وضيق لو قيل لك أنّ (النت) مقطوع أو سينقطع يوماً كاملاً أو حتى ساعة أو ساعتيْن؟ الموضوع أعقد ممّا تتخيّل وإلّا ما كان موضوعاً لمباحث مكلفة ومساءلات مطوّلة وتدقيقات مكثّفة.
كم وددتُ أن أعيش حياتي في عصر التنوير الأوربي حيث عاش أعاظم الفلاسفة الذين نعرف. كانت مناسيب التشتيت الضوضائية حينها أقلّ بكثير ممّا هي عليه اليوم، وهذا ما ساعد العقل البشري على إبتداع تلك الرؤى الخلاقة على كلّ الأصعدة. لن يستطيع أحدنا اليوم أن يتمثّل حياة مواطني عصر التنوير إلّا في جزئية واحدة: قراءةُ كتاب، ويفضّلُ أن يكون ورقياً حتى يبتعد المرء عن المؤثرات الرقمية المقترنة بكلّ إتصال مع الشبكة العالمية. يمكن أن ينجح الأمر بهذه الطريقة فقط. جرّبْ طريقة أخرى وسترى كيف ستنتهي إلى الفشل.
أظنّها مهمّة تستحقُّ كل جهد ومشقّة أن نمتلك القدرة على الإنصات إلى صوتنا الداخلي ورؤيتنا الشخصية ومكاشفتنا الفلسفية في الحياة. عندما يستطيبُ المرء حالة الذوبان والتلاشي في لجّة الفضاء الرقمي يستحيلُ كينونة بشرية من غير مواصفات، وسيستمرئ حالة تلقّي المعلومات من غير جهد يُبذَلُ في طلبها. هذه معضلة أخطر ممّا نتخيّلُ لأنّ لها مفاعيل مؤذية في الإحساس بالهوية الفردية. سيكون المرء المصابُ بالإدمان الرقمي من غير صناعة محتوى منتج ومؤثّر كمن يعتادُ التغذية الوريدية لأنّ جهازه الهضمي أصابته العطالة الكاملة.
وحدُهُ الكتابُ ما يمتلك القدرة على كبح الضوضاء المحيطة بنا حدّ الإدمان. لا بأس من القراءة الألكترونية على جهاز القارئ الألكتروني (الكيندل) ففيه ميّزاتٍ تشجّعُ مَنْ شحّ بصرُهُ على مواصلة القراءة من غير معيقات جسدية. لكن لو كان ممكناً القراءةُ في كتاب ورقي لكان هذا فعلاً جميلاً. الأمر المهم أن ننصرف للكتاب انصرافاً كاملاً ولا نجعل من الشبكة العالمية فخّاً ننزلق فيه فما أيسر أن يضيع الوقت فيها بدداً ونحن مأسورون في هذا الفخ.
قيل –وسيقالُ- الكثير في أهمية معارض الكتب. سيكتبُ عنها أنّها أماكن لنشر المعرفة على أوسع الأنطقة الممكنة، فضلاً عن أنّها أماكن ترويجية للكُتّاب وكتبهم. هذا صحيح؛ لكنّ كبح ضوضاء العالم أو تقليل مناسيبها على الأقلّ هي الأهمية الأولى لمعارض الكتب. هل جرّبتَ أن تقضي ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً وأنت تتجوّلُ بين رفوف الكتب في أجنحة شتى؟ ستشعر بخفّة في الجسد وطلاقة في الروح فقد غادر عقلك مواضع برمجته الكلاسيكية والروتينية وراح يتعامل مع أجواء جديدة وعناوين جديدة غير تلك التي إعتادها. الإنقياد إلى تقاليد مكرورة في القراءة أو الإطلاع على المعلومات يقود إلى عقل متخشّب (كاتاتوني Catatonic) تماماً مثلما تؤدي بعض أشكال الشيزوفرينيا إلى تخشب جسدي.
محاربة ضوضاء العالم ليست بالمهمّة الميسّرة المتاحة. فهي تتطلّبُ إرادة عزوماً وسعياً صارماً لتغيير أنماط عيشنا. هذه الإرادة وذلك السعي لن ينجحا في الفعل إلّا إذا ترافقا مع فهم جيّد لما تفعله الضوضاء الرقمية في عالمنا. إنّها تجعلنا كائنات شيزوفرينية لا تعرف مكامن اللذة الحقيقية والإسترخاء الصحّي في هذا العالم.
أظنّ أنّ ديكارت لو وُجِدَ بيننا اليوم لجعل الكوغيتو الديكارتي الخاص به على الشاكلة التالية: أنا أقرأ؛ إذاً أنا أقلّلُ منسوب الشيزوفرينيا الضوضائية في هذا العالم.