TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كتابنا. . تسابق محموم بين التحفيز المادي والشهرة!

كتابنا. . تسابق محموم بين التحفيز المادي والشهرة!

نشر في: 9 ديسمبر, 2024: 12:40 ص

عبد الكريم البليخ

يعيش المشهد الثقافي والإعلامي العربي في الآونة الأخيرة ظاهرة تستحق التأمل، تتمثل في تسابق محموم من جانب عدد كبير من الكتّاب العرب نحو نشر مقالاتهم باستمرار في الصحف والمنصات الإعلامية. ويبدو أن هذا الكمّ الهائل من المقالات قد تحول إلى جزء من المشهد اليومي، حيث نجد أنفسنا أمام محتوى متنوع، يضم ما هو ذو طعم وما هو بلا طعم أو مضمون. هذه الظاهرة تثير العديد من التساؤلات حول جدوى هذا الكم الكبير من المحتوى، وأثره الحقيقي على القارئ. فما الذي يدفع هؤلاء الكتّاب إلى هذا السعي الدؤوب؟ وهل السبب في ذلك مادي بحت؟ وما هي الدلالات التي يحملها هذا الازدياد المطرد في أعداد الكتّاب الذين أصبحوا بالمئات، بل بالآلاف، يدلون بآرائهم بشكل قد يبدو بعيداً عن توصيف الواقع بموضوعية وعمق؟
لقد أصبح هذا التسابق بين الكتّاب العرب على نشر المقالات ظاهرة مثيرة للاهتمام، تستحق وقفة تأملية لتحليل دوافعها الحقيقية. وتتسم هذه الظاهرة بفيض من المقالات، بعضها يقدم محتوى مفيداً وطرحاً عميقاً، وبعضها الآخر يفتقر إلى العمق والرؤية الموضوعية، بل قد لا يكون له ارتباط فعلي بما يواجهه القراء من قضايا حياتية وتحديات يومية. فما الذي يجعل الكثير من الكتّاب يسعون جاهدين لنشر أكبر عدد من المقالات، وما هي مبررات هذا السلوك؟
من بين الأسباب الرئيسة التي يُثار حولها الجدل هو الدافع المادي، إذ يسعى بعض الكتّاب إلى تحقيق عائد مادي من خلال نشر مقالاتهم، لا سيما إذا كانت الصحف تقدم مكافآت مالية أو حوافز تشجيعية للنشر المنتظم. وعلى الرغم من أن هذه المكاسب المالية ليست دائماً مجزية، فإنها تمثل حافزاً قوياً لعدد من الكتّاب، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعصف بالعديد من البلدان العربية. ومع تطور الإنترنت، أصبحت عملية النشر الإلكتروني أكثر سهولة وانتشاراً، مما شجع الكثير من الكتّاب على اعتبار الكتابة مصدراً إضافياً للدخل، حتى وإن كان محدوداً. ويعد هذا التحول دلالة على أن الكتابة لم تعد مجرد هواية أو وسيلة للتعبير عن الأفكار، بل تحولت إلى مهنة وحرفة ترتبط بشكل وثيق بظروف الحياة اليومية، حيث يسعى الكاتب من خلالها إلى تحسين دخله.
إضافة إلى الدافع المادي، نجد أن السعي لتحقيق الشهرة الصحفية أو الوصول إلى مكانة اجتماعية متميزة يمثل حافزاً لا يقل أهمية لكثير من الكتّاب. ففي العالم العربي، تُعد وسائل الإعلام منابر ذات تأثير واسع النطاق، وتعتبر الكتابة في الصحف وسيلة لبناء قاعدة من القراء وترك بصمة شخصية. يساعد هذا على تعزيز فرص الكاتب للوصول إلى منصات إعلامية أكبر، أو حتى للانخراط في مجالات أخرى، مثل التحليل السياسي أو تقديم الاستشارات الإعلامية. ويعكس هذا الهدف رغبة الكتّاب في تعزيز حضورهم الإعلامي، وبناء شخصياتهم العامة في المجال الثقافي والاجتماعي، وهو أمر قد يكون مغرياً للكثير من الكتّاب الطامحين إلى ترك بصمة في المجال الإعلامي العربي، والارتقاء بمكانتهم الاجتماعية.
على الرغم من التنوع الذي يشهده المشهد الإعلامي وثراء المحتوى المنشور، إلا أن هناك مشكلة واضحة تكمن في ابتعاد الكثير من الكتابات عن توصيف الواقع بدقة وموضوعية. ويبدو أن الرغبة في إنتاج محتوى جديد وسريع قد طغت على أهمية التركيز على القيمة الحقيقية لهذا المحتوى. فبدلاً من السعي لتقديم رؤية متبصرة ومعمقة، أصبحت الكتابة في بعض الأحيان مجرد وسيلة لإرضاء رغبة الكاتب في التعبير، أو لتحقيق مكانة "كاتب" بين أعداد كبيرة من الكتّاب الآخرين. وفي هذه الحالة، يتحول المحتوى إلى مجرد كلمات قد لا تضيف شيئاً جوهرياً للنقاش العام، بل وقد تؤدي إلى إضعاف الثقة بين القارئ والمحتوى المنشور، نظراً لابتعاد هذه المقالات عن قضايا المجتمع الملحة والمباشرة.
لقد أصبحت وسائل الإعلام الإلكتروني اليوم أكثر تيسيراً للنشر، سواء عبر الصحف الإلكترونية أو منصات التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى تضاعف أعداد الكتّاب بشكل لم يسبق له مثيل. بات الوصول إلى جمهور واسع لا يقتصر على الكتّاب المحترفين فقط، بل أصبح بإمكان أي شخص نشر مقال يقرأه آلاف، وربما ملايين الأشخاص. أسهم هذا الانفتاح في خلق فضاء إعلامي مزدحم ومتنوع، حيث تتفاوت مستويات المقالات والمحتوى المطروح، مما أدى في كثير من الأحيان إلى انتشار الكتابات السطحية التي تفتقر للعمق أو التي لا ترتبط بشكل مؤثر بالواقع.
نتج عن هذه الظاهرة تحديات عديدة تتعلق بجودة المحتوى الصحفي والإعلامي، حيث أصبحت العديد من المقالات المنشورة تفتقر إلى التحليل العميق أو الطرح الجديد، مما يضعف من ثقة الجمهور بالمحتوى الإعلامي. إضافة إلى ذلك، فإن كثرة الآراء المتباينة، وغير المدعمة بالأدلة الكافية أو الخبرات، قد تؤدي أحياناً إلى تشتت القراء وتضليلهم بدلاً من تعزيز وعيهم بالقضايا الهامة. وقد يواجه القراء صعوبة في تمييز المحتوى القيّم من غيره، مما يؤدي إلى حالة من الإرباك وفقدان الثقة في وسائل الإعلام التي باتت تنشر كل ما يصل إليها من محتوى دون تقييم جدي لجودته.
ما الحل؟
في ظل هذا التسابق المحموم نحو النشر، يبدو أن الحل يكمن في تعزيز معايير الكتابة وتحفيز الكتّاب على تقديم محتوى يحمل قيمة حقيقية وأهدافاً نبيلة. يجب أن يتوجه الكتّاب نحو التركيز على قضايا المجتمع الملحّة والمباشرة، وعلى تقديم رؤى تساهم في إثراء الفكر العربي وتسهم في الارتقاء بالمحتوى الإعلامي. كما ينبغي على وسائل الإعلام نفسها أن تتبنى سياسات أكثر صرامة تجاه قبول المحتوى المنشور، بحيث تُعطى الأولوية للمقالات التي تقدم إضافة فكرية ومعرفية حقيقية، وتلامس حياة القراء وتدعم وعيهم بالقضايا الراهنة.
إن إعادة بناء الثقة بين القارئ ووسائل الإعلام تتطلب إعادة النظر في مضمون المقالات التي تُنشر، وتحفيز الكتّاب على الإبداع والابتكار، بدلاً من اللهاث وراء المكاسب المادية أو السعي لتحقيق الشهرة السريعة. بهذا التوجّه، يمكن للإعلام العربي أن يعيد مصداقيته، ويخلق جسراً من الثقة بين الكتّاب والجمهور، ويؤدي دوره في تنوير المجتمع وتعزيز الوعي العام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

مخاوف تسلل "داعش" من سوريا تتزامن مع حوادث "مريبة" في كركوك

المجلس العراقي للسلم والتضامن يعقد مؤتمره الخامس وينتخب قيادته

الرئيس مسعود بارزاني يحيي المؤتمر

كلمة فخري كريم في المؤتمر الخامس للمجلس العراقي للسلم والتضامن

الشيوعي العراقي: نحو تعزيز حركة السلم والتضامن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

السِّجن السّياسيّ: المطبِق وبيت البراغيث إلى قصر النّهاية وصيدنايا

العمود الثامن: اقفاص الأسد في يومها الأخير

العمود الثامن: تذكروا أنكم بشرٌ

العمود الثامن: أهلا بكم في الديمقراطية العراقية

العمود الثامن: دولة مدنية

العمود الثامن: كلمات إماراتية واطلالة عراقية

 علي حسين في قراءة الكلمات التي كتبها الشيخ محمد بن راشد رئيس وزراء الامارات، وهو يهنئ الفنان العراقي ضياء العزاوي لفوزه بجائزة " نوابغ العرب " ، نعيد اكتشاف تلك المقولة التي كتبها...
علي حسين

قناديل: هدايا (الرفاعي)

 لطفية الدليمي كلُّ كتابٍ ينشره الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو هدية حقيقية لقرّائه. أسبابُ هذا كثيرة لعلّ أوّلها هو حفره في أرض صلبة كأنّها الصخر. هو يعرف قبل سواه أنّ هذه التربة الصخرية...
لطفية الدليمي

قناطر: البندقية أم علبة الألوان؟

طالب عبد العزيز في حساب الربح والخسارة أقول بأنَّ علبةَ الألوان أثمن من البندقية. والحقَّ نقول بأن المنطقة العربية التي اعتمدت الإسلام السياسي طريقاً لأنظمتها هي المتسبب بخسارة الشعوب لكثير من مواطنيها وثرواتها، نعم،...
طالب عبد العزيز

الإبداع وروح الأسرة

ياسين طه حافظ هو هذا ما نحتاج له، احياناً من دون ان ندري واحياناً، وهي ساعات الوعي، ندري ونسعى لان نمتلك ونمارس. ما اتحدث عنه، هو الحميمية التوافقية، او "الاسرية" في خلق بيئة، وسطٍ،...
ياسين طه حافظ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram