د. أحمد عبد الرزاق شكارة
إن نقطة الشروع في بناء عراق حضاري - أنساني جديد يعد اختبارا لمصداقية تحمل النخب الواعية المبدعة مسؤولية كبرى للتغيير الايجابي بأتجاه بناء دولة المواطنة - المدنية مسألة في تقديرنا المتواضع ليست بالامر اليسير. من هنا ايضا، صح ما نستشف من توصيات رشيدة حكيمة صدرت مؤخرا للمرجع الاعلى السيد علي السيستاني من أن مسؤولية التغيير الستراتيجي يجب أن تعهد لدور النخب العراقية الواعية المبدعة كونها بمثابة حائط الصد الاخير للتغير المؤسساتي الحقيقي تستحق التضحية بالغالي والنفيس وصولا لانجاز أهداف التنمية الانسانية المستدامة بحدود 2030.
مقال قد يفتح نقاشا موضوعيا يتم فيه تبادل الآراء ووجهات النظرلكل من يرى أولوية إعمال" تغيير استراتيجي مؤسساتي أنساني " شامل يستند إلى منهج علمي وواقعي بحيث يرى الصورة الكاملة لما نحن من أوضاع بعضها وصل لحدود لايمكن التنبأ بتداعياتها أو بمدى خطورتها على أمننا الوطني وأمن منطقتنا الشرق اوسطية كونها تهدد بقاء الدول كنتيجة لتنامي الصراعات الدولية والاقليمية التي أضحت مزمنة لابد من تجاوزها سريعا. صحيح أن تمتع العراق بموقع جيوسياسي حيوي و بموارد ضخمة بشرية واستراتيجية (موارد نفطية، معدنية ومالية وغيرها) إذا ما استثمرت ووظفت بشكل مخطط ومنفذ له استراتيجيا ستمكنه ان يستعيد دورا جيوسياسيا وحضاريا يمثل رقما صعبا في معادلات توازن وردع القوة بمعناها الشامل حماية وتنمية أنسانية حقيقية لاجيالنا قادمة.
كل النماذج العالمية الناجحة في تحقيق الاستقرار والامن والازدهار التنموي لابد أن تبنى على اسس حماية المورد الانساني وتنميته وفقا لشروط علمية - سياقات منهجية - ومعاييرمتوازنة ملائمة لعصر تقني تتسارع فيه الاحداث والمنجزات على الصعيدين المدني والعسكري الامر الذي يتطلب اولوية بناء الثقة بين صناع القرار والشعوب وعلى رأسها مثلا أستمرار زخم تنفيذ اجراءات مكافحة الفساد بكل اشكاله وانواعه بعيدا عن التسيس والادلجة من خلال احترام القرارات القضائية العادلة وإتساقا مع متطلبات"حكم رشيد عادل " يوصلنا لاهدافنا المنشودة. حقيقة لا أود استعادة أمجاد الماضي القديم عندما كان العراق وبغداد بالذات قبلة العالم حضاريا عبر مراحل تاريخ حافل بمنجزات حضارية - أنسانية في كل قطاعات الحياة بصورة اعترف بها القاصي والداني برغم الظروف الصعبة تأريخيا الناجمة عن حروب أونزاعات وصراعات اقليمية ودولية حادة. من هنا أولوية سعي النخب الواعية المثقفة لتسنم دور قيادي او ريادي ينهي حالة التآرجح او المراوحة في بلورة رؤية جيوسياسية واقتصادية - ثقافية - علمية تمكن العراق من التعامل الجاد لإحتواء الازمات الداخلية والخارجية. لعلني لا ابالغ إذا قلت أن اي نظرة علمية منهجية وواقعية تضع حدودا لحالات التشظي او الضعف تتطلب تأسيس"كتلة حرجة" تمثلها قيادات تطلق رؤى ومشروعات استراتيجية قابلة للتحقق وفقا لبرامج زمنية واضح. من هنا مثلأ أهمية التمعن واستلهام بعض ما ورد من افكار قيمة وردت في مذكرة الملك فيصل الاول (1921- 1933) التي غطت مساحات واسعة من قضايا ومشكلات على مختلف الصعد المجتمعية - الاقتصادية - الثقافية - التربوية والعلمية والبيئية وغيرها عانى منها كثيرا العراقيون نظرا لكونها شكلت عائقا امام تقدم مسيرته التي كان يراد لها ان تسير اشواط متوسطة وبعيدة المدى في تحقيق الاصلاح المؤسسي التي كانت ستنعكس إيجابا على رفاهة الشعب وإحقاق العدل الاجتماعي والاقتصادي ولكنها لم تصل لمديات التوقع كون الملك فيصل الاول توفي في عام 1933. . يعنني في هذا المقال ان اوضح بعضا من القضايا الواجب التنبه لها بغية خلق واقع جديد يتوائم ويتكييف مع مقتضيات عصر سريع إيقاع التغيير:
اولا: يفترض أن يتمتع العراق بنظام سياسي وطني - مدني رشيد يجب أن يتمتع بحكم وطني - مدني يواكب بحق كافة معطيات ومتطلبات التنمية الانسانية المستدامة كي يحقق إندماج وطني وقومي National Integrationيعكس هويته الوطنية والمدنية Civil Status ملبيا بالضرورة مطالب وأحتياجات سكانه وفقا لاستحقاقات قانونية - دستورية أتساقا مع دور حيوي للدولة الراعية والحامية للحقوق و للالتزامات.
ثانيا: تكلمت في مقالات متعددة سابقة عن الحكم الرشيد الحكيم ولكنني أجد نفسي أعاود التذكير به، لماذا؟؟ السبب لان المشكلات والازمات الحياتية تتكرر بصورة وصلت إلى حدود انعكس بعضها سلبا على مشروعات بناء وتنمية البلاد انسانيا. صحيح أن حكومة الخدمات الراهنة تؤدي مهمام استراتيجية ضخمة في تلبية الاحتياجات الخدمية الاساسية خاصة في مجالات النقل - المواصلات - والبنى التحتية وفي مختلف قطاعات الدولة (صحة وتعليم وإعلام) ولكن تركة حكومات سابقة لازالت ثقيلة تستوجب أن تعالج من خلال روح عمل الفريق الواحد مهنيا بعيدا عن التقيد بالتزام سياقات بيروقراطية والتقليدية جامدة. من هنا اهمية السير سريعا لتنفيذ خطوات الوصول للحكومة الالكترونية ضمن مخطط زمني مناسب. من هنا أعتقد أنه كلما تم تطبيق فقرات البرنامج الحكومي بنجاح باهر لحكومة السيد السوداني وفقا لسياق حكومة الخدمات الاكترونية التي ستقلل كثيرا من ظواهر الفساد ستثمر في المديات المتوسطة والبعيدة عن برنامج عمل مخطط له جيدا يستوعب كفاءات العراق المبدعة. ولكن كيف؟
ثالثا: يجب أن تقيم نجاعة تطبيق خطط التنمية الانسانية المستدامة ومتابعة حثيثة لكل تداعياتها الانسانية ليس فقط من خلال الاعتماد على موارد دولة ريعية (نفط وغاز طبيعي) فقط بل يفترض ان يتسلح العراق بموارد غير نفطية من قطاعات اساسية تشمل موارد متجددة للطاقة واخرى نابعة من قطاعات الاقتصاد التقليدي ايضا (الزراعي والصناعي) مضافا لقطاع تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي الذي شمل المحيطين المدني والامني معا لأنها قطاعات جديدة ستستوعب عمالة تتكيف مع متغيرات العصر سريع الايقاع .
ثانيا: إن الاولوية في تقديرنا لابد أن تبتدأ بتنمية الطبقة الوسطى مع سعي حثيث لخدمة الشرائح الاضعف من المجتمع بصورة تنهي كليا معاناة المواطن تقلل الفقر ـ الجهل والامراض السارية إتساقا مع خطط جدية معاصرة للتعليم والبحث العلمي والتقني في مؤسسات تستلهم وتستوعب كفاءات يحتاجها العراق مستقبلا.
رابعا: لعل كلمات مركزة للدكتور محمد فاضل الجمالي من رواد الفكر والتربية الحديثة ورئيس وزراء سابق في كتابه (العراق بين أمس واليوم) الذي نشر في بغداد - عام 1954 لم تزل ترن في اسماعنا ويحسن تذكرها : "إنشاء حكومة عصرية بكامل تشكيلاتها وإدارتها ووضع دستور حديث لها ". تصوري أن النظر الستراتيجي لتطور النظام السياسي الذي يخضع للمحاسبة من قبل السلطة التشريعية مسالة غاية في الاهمية تتسق ايضا مع الاهتمام بتعديل مواد الدستور لان تطبيقها لم تعد ترفا فكريا او سياقا جامدا بل لابد أن تتجه الجهود القانونية للوصول لصياغة جديدة لدستور يحظى بقبول واسع بعيدا عن فكرة المكونات إلى الانتباه لفكرة اخرى تؤكد النهج المدني - الوطني من خلال استيعاب شرائح عضوية مجتمعية - اقتصادية - ثقافية همها الاساس بناء عراق حديث بعيدا عن فكرة المحاصصة والاعراف السلبية التي جاءت بها.
خامسا: من المفترض الاسراع بحملة جدية لاستقطاب كفاءات الوطن من الداخل اومن الخارج بشرط التزام النظام السياسي بتحقيق آمال كل كواطن بإعتباره أنسانا يتمتع بالحريات والحقوق الوطنية ولكن بنفس الوقت الذي عليه احترام الالتزام بالواجبات الوطني بعيدا عن التعصب والتحزب او الصراعات التي تحتمل استخدام العنف كالصراعات القبلية - العشائرية وغيرها أوتسيس و أدلجة سياقات العمل المهني والتي ولاشك تنعكس سلبا على بناء مدني حديث ملتزم بمبدأ المواطنة الحقة. إن تبلور الروح الوطنية والقومية يعتمد اساسا على مدى تشرب المواطنين بمحبة الوطن بكل شرائحه وفقا للاولوية التعامل الانساني والمهنية والكفاءة المصاحبة لازدهار العراق تنمويا. الامر الذي يتطلب توفر نخبة واعية مثقفة مسألة حيوي تنم عن ضرورة الرجل المناسب في المكان المناسب. مسألة لطالما تحدثنا وكتب عنها الكثير من قبل مفكرين كثر ولكن لابأس من التذكير بها والتأكيد عليها كونها لاتغطي فقط البعد المهني والحداثة المطلوب الامتثال لها ولكن لاهمية غرس الجانب القيمي المعنوي والاخلاقي في فكر وسلوك كل فرد منا. من الاقوال التي تثير الانتباه في تشخيص من هو المثقف العضوي للمفكر الراحل الدكتور ادوارد سعيد عبارة لافتة انه " ليس داعية مسالمة ولا داعية أتفاق في الاراء، لكنه شخص يخاطر بكيانه كله بإتخاذ موقفه الحساس، وهو موقف الاصرار على رفض الصيغ الجاهزة المبتذلة، او التأكيدات المهذبة القائمة على المصالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله وما يفعله اصحاب السلطة واصحاب الافكار التقليدية ". علما بأن بعض المفكرين يدعون لسياق اكثر فاعلية وشدة تنطلق من رؤيتهم للوصول للاهداف التجديد المرجوة منهم مثلا عبارة اوردها الكاتب الفرنسي رومان رولان : " حين يقدر لنا ان نولد في غمار صراع عظيم، لا يحق لنا الانعزال او التهرب من الكفاح يجب أن تضرب عبقريتنا بجذورها في التربة الخصبة للفعل والحركة المعاصرة ونضالاتها وطموحها ". سياق ثوري ربما لسنا بحاجة اليه كلما سارت الامور على مايرام حيث تؤسس دول المؤسسات الديمقراطية التي تحمي وتحترم أنسانية المواطن وترتقي بطموحاته سلميا ومدنيا.