TOP

جريدة المدى > عام > "مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيراً> "عَلِي لَبِيبْ جَبرْ"

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيراً> "عَلِي لَبِيبْ جَبرْ"

نشر في: 9 ديسمبر, 2024: 12:53 ص

د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
تثير اشكالية "الآخر" (.."الآخر" المختلف) اهتماماً كبيراً في المنتج الثقافي الراهن. وتتيح المقاربات الحداثية ومذاهب التوجهات النظرية الحالية إمكانات معرفية واسعة لجهة فهم موضوعي أعمق لهذة الاشكالية الثقافية وتبيان اثرها في اثراء تنوعيات المنتج الابداعي، بضمنها، بالطبع، المنتج المعماري الذي نتصدى له في مقالنا هذا. فمعرفة "الآخر" والاطلاع على منجزه العمراني والدراية المعرفية بمناهج واساليب مقارباته الابداعية سيكون امراً مفيداً ومثمراً، إن كان ذلك على النطاق النشاط الشخصي للمعمار المصمم، ام فيما يخص فعل العمل المعماري العام. ذلك لان حضور المعرفة الابيستمولوجية (.. والمهنية ايضا) "المجاورة" في ثنايا الخطاب الثقافي المحلي، يثري، من دون شك، نوعية ذلك الخطاب ويوسع آفاقه. وفي هذا الصدد، كتبت مرة، في مقال لي سابق، عنونته: <تركيا.. "العمرانية">، وإشرت فيه الى مسوغات التعرف عن منجزات البلدان المجاورة، ثقافيا و..معمارياً. وقلت في حينها "..وتركيا المجاورة لنا جغرافيا، والقريبة منا ثقافيا.. وتاريخيا، لا نعرف عنها الكثير، وخصوصا في مجال العمران الحديث، مثلما لا نعرف كثيرا، بالمناسبة، عن العمران الحديث في ايران او الهند او الباكستان؛ رغم ان ضرورات المعرفة اياها، مسوغه ومبرره على قدر كبير، لناحية تشابه الوقائع الاجتماعية والثقافية، وشبه تماثل الظروف المناخية والتاريخية المؤسسة للقرار التصميمي، ما يجعل من اطلاع ومعرفة ودراسة وتحليل الشأن العمراني التركي (وغير التركي بالطبع)، امرا غاية في الاهمية، لجميع معماريينا ومصمميينا بغية تلافي اخطاء التجريب، او لجعل <الذخيرة التركية> نقطة انطلاق لمشاريع تصميمية ناجعة في منطقتنا العربية". وعليّ، الآن، <إضافة> المنتج العمراني.. "العربي" الى سجل تلك القائمة الطويلة للبلدان "الأخرى" التى يتعين علينا معرفتها وتعقب نجاحاتهاـ اسوة بالبلدان "المجاورة" القريبة لنا. فما نعرفه عن المعماريين <الاشقاء> في البلدان العربية الأخرى، لا يمكن له ان يرتقي الى المستوى المطلوب والمنشود، وبالتالي تبقى ممارسات "عمارتنا" رهناً بمحليتها الضيقة، مفتقدة لآفاق رحيبة من المعرفة المهنية الواسعة والعميقة. وهو امرٌ عدا كونه فعلاً معرفيا ناقصاً، فأنه يسهم في تكريس "غربة" الشقيق الآخر و"يمحو" تجارب وتأثيرات خزين معرفي نادر وقريب ومهم في آن.
اعرف، ان ما يعوق الانفتاح على "الآخر" ويقف حائلا دون معرفته، معرفة حقيقية وواقعية، وفهمه من دون أوهام او تصورات مسبقة، هو ما يعرف بـحالة (غلبة السياسي على الثقافي). وهي حالة، أشرت اليها ايضا في مكان آخر، واعتقد بان التذكير فيها هنا، سيكون أمرا مناسباً ومتمما للفكرة التى اود ايصالها للمتلقي، الفكـرة الـتى اُشايعـها، وارغـب ان اقدم نفسي بها للأخـرين. فـ "ليـس ادعاءً، ان اعتـبر نفسـي، احـد مناصـري (.. وحتى مروجي!) معرفة "الآخر" المختلف، وفهمه فهما معــرفيا عميقاً. واجد في هذا المسـعى <النبيل> (..ان شئتم!)، اثراءا ثقافيا وابستمولوجيا لي، وطبعا للآخرين. واقولها بحسرة، بان "ثقافة" معرفة الآخر واحترامه والتعلم منه، غير رائجة في مجتمعاتنا العربية، بل وحضورها لدى كثر يقترن بالغياب، وبعضهم يعتبرها ثقافة "دخيلة"، تنضوي تحت مظلة الحروب "الثقافية" التى تشن علينا بلا هوادة من مختلف الثقافات "الأخرى"!. وكأن التعرف على الآخر والتعلم منه، هو بمثابة "سَبَّةٌ"، او سمة سلبية يتعين اجتنابها. وما نراه الآن رائجا في المشهد، هو فائض سطوة الفعل السياسي على كل ما عداه؛ الفعل الداعي بضجيج عال، لرؤية نجاحات الثقافات الأخرى واختزالها في مماحكات سياسية عابرة، تسهم في طمس تلك النجاحات وعدم الاعتراف بها… وما نقرأه من دعوات وما نسمعه من مفردات، هو في الواقع صدى لتغليب الجزء على الكل، غلبة السياسي على الثقافي؛ وبالتالي فنحن في مأزق حضاري حقيقي، سببه الطروحات الالغائية والتحصن في "مركزيات" متوهمة. والخروج من هذه الحالة ممكن فقط عندما ينصاع الفعل السياسي المبنى على اوهام وتلفيقات مظللة الى سلطة المعرفة، المعرفة الداعية الى تقبل الغيرية في الهوية، والمختلف فيما هو مؤتلف، والداعية الى انفتاح الشعوب لا الى انغلاقها".
يبقى اسم المعمار المصري "عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ" (1898 – 1966) فاعلاً مهماُ في سردية المنتج المعماري الحداثي، مثلما يبقى، أيضاً، شاهداً على "غلبة" التغريب، ومثالاً لإقصاء "الآخر" واَلنَّأْي به بعيداً عن هموم مواضيع الخطاب المعماري الاقليمي الراهن! واجزم بان قلة من المعماريين العرب سواء كانوا في العراق او في سوريا ام في الجزائر والمغرب او في بلدان شبه الجزيرة العربية أو في غيرها من الامكنة العربية الأخرى مطلعون على منتج هذا المعمار الحداثي ويعرفون جيداً قيمته الفنية والمهنية. ليس لان منتج "عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ" غير جدير بالمعرفة او الدرس، وإنما بسبب"رزء" التغريب ومحنة الاقصاء اللتين نعاني منهما ثقافياً.
ولد "عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ" في القاهرة بحي الحلمية الجديدة عام 1898، وتلقى تعليمه التجهيزى بالمدرسة الخديوية، تخرج من مدرسة <المهندس خانه> سنة 1920. وكان من المبعوثين للدراسة في إنجلترا بمطلع عشرينات القرن العشرين في مرحلة تنامي الحركة الليبرالية الوطنية في مصر، وحصل على دبلوم مدرسة العمارة بجامعة ليفربول سنة 1924. وبعد العودة إلى مصر عُين معيداً مدرساً للتصميمات المعمارية وأستاذاً بمدرسة الهندسة الملكية في سنة1924، وبعد ذلك عين مدرساً لقسم العمارة سنة1934 بالجامعة المصرية وقد تولى رئاسة قسم العمارة من سنة 1946 حتى استقالته سنة 1955 للتفرغ الى نشاطه المهني الحر في مكتبه الخاص الذي أسسه سنة 1924 ـ 1925 وهو لم يتجاوز الـ 26عاماً. واستمر يزاول المهنة قرابة الأربعين عاماً، وعمل في مكتبه بعض من الرواد المعماريين فى ذلك الوقت، بضمنهم الأخويّن حسن ومصطفى شافعى. واستمر استاذاً غير متفرغ حتى سنة 1961، كان أول رئيس مصري لقسم العمارة بجامعة فؤاد الأول (قسم الهندسة المعمارية كلية الهندسة جامعه القاهره).
حاز على جائزة الدولة التقديرية عام 1963، كما نال وسام الجمهورية في 1963 ايضا لاسهامه في مشروع تصميم وتنفيذ مبنى المراقبة الجوية بمطار القاهرة. وقد اتخذ مجلس محافظة القاهرة قراراً باطلاق اسمه على احد شوارع العاصمة المصرية والذي مكتبه يقع فيه (ممر بهلر سابقاً).
يعود الفضل الى "عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ" لمساهماته التصميمية المؤثرة والمميزة في اضفاء طابع الحداثة على المشهد المعماري المصري وخصوصا بالقاهرة. وقد صمم العديد من الابنية التى اثرت البيئة المبنية المحلية، تلك الابنية ذات الوظائف المختلفة من عمارات سكنية وتجارية ودارات خاصة (فلل) لشخصيات مصرية معروفة، كما قام بتصميم العديد من المستشفيات والمصانع والابنية الادارية والنقابية سواء في مصر او خارجها. ومن بين تصاميمه فيلا ام كلثوم في الزمالك (1933 – 1938)، وفيلا حسين عرفان بالمعادي (1937) وفيلا محمود البدراوي بالجيزة (1945). كما صمم مجمع مصتع مصر للغزل والنسيج في المحلة الكبرى (1945) بمنشآته المتنوعة. وصمم نقابة المحامين في شارع رمسيس بوسط البلد (1936) وكذلك المركز القومي للبحوث في الدقي (1956). كما صمم العديد من العمارات السكنية والتجارية كعمارة فريدة هانم عبد الله (1930) وعمارة احمد كامل باشا بعابدين (1939)، وعمارة ابراهيم الالفي بالاسكندرية، وعمارة منير بك الشوربجي بالزمالك، وعمارة ابراهيم عمرو بالجي زة، وعمارة جورج وهلال الشماع في شارع عرابي بوسط البلد (1951)، وغير ذلك من العمارات التي اضفت الكثير من التجديد الى بيئتها المبنية المحيطة
وكما أشرنا قبل قليل، فان معظم المقاربات التصميمية التى انتهجها المعمار "عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ" في تصاميمه المختلفة كانت تعتمد على النهج الحداثي للعمارة، هو الذي شاعت مدارسه بشكل واضح في اوربا في فترة ما بين الحربين. وكان اسلوب "الار ديكو" Art Deco الذي تسيّد الخطاب المعماري ومشهده وقتذاك وخصوصاً في فترة ما بين الحربين، هو الاسلوب المفضل لدى معمارنا الفذّ. وقد وجدت مميزات هذا الاسلوب المنطوية على استخدامات مواد مثل الالمنيوم والفولاذ المقاوم للصدأ والمينا وترصيع الخشب، والاستخدمات الواسعة للاشكال المتعرجة و المتدرجة والخطوط المنحنية والحيوية (بالضد من المنحنيات المتدفقة الانسيابية لاسلوب "الار نوفو" (Art Nouveau,وجدت معبراً كفئاً وموؤلاً ذكيا لها في شخصية المعمار "جَبْرْ " وفي مشاريعه التصميمية المتسمة لغتها على عُدّة فنية تحمل في طياتها مزيجاً من الخبرة المهنية والكفاءة والآهلية التصميمة، معيداً بذلك تأثيث نوعية البيئة المبنية التى يعمل بها على درجة عالية من التشويق وبمستوى اقصى من الاناقة والحداثة.. معاً.
لا يسعني وانا اتحدث عن منتج "عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ" التصميمي، الا وأن انوه الى معلومة مثيرة (.. اراها ايضاً، استثنائية في اهميتها وجدواها) في مسار منتج العمارة العراقية الحداثي. وهذة "المعلومة" تشير الى إغفال كثر من المهتمين والدارسين العراقيين وحتى المعماريين الرواد منهم، وعزوفهم عن ذكر أسميين اثنين صمما مبنيين اساسيين في فضاء بغداد المعماري وهما أسم معمار "عمارة الدامرجي" (1946)، وأسم معمار "مبنى المنصور" (1956). وارى في ذلك نوعاً من "تقصير" معرفي بحق هذين "المعلمّين" الهامين، وتجاهل غير مبرر بحق ذاكرة مسار الحداثة العراقية. صحيح اني تناولت ذكر هذين المبنيين في كتابي "عمارة الحداثة في بغداد: سنوات التأسيس" (2014) واشرت في حينها بان معماريّي المبنيين: الدامرجي والمنصور يمكن ان يكونا ("مصرييّن" <على الارجح>، كما ورد في الكتاب نصاً)، ولكن من دون ذكر اسم محدد لهما. وهذا "الرجحان" يمكن فهمه وادراكه، في ضوء فعالية التعاون المثمر والرائج وقتها، بين ممثلي رجال الاعمال العراقيين مع زملائهم المصريين، ما افضى الى الاستعانة، مراراً، بجهد المعماريين المصريين والاستفادة من آهليتهم المهنية المتقدمة في المساهمة بتنفيذ مشاريع عمرانية واسعة بالعراق. (لنتذكر مشروع مدينة "بغداد الجديدة" بالعصمة العراقية في نهاية الاربعينات، الذي اضطلع بتخطيطه والاشراف على تنفيذه المعمار المصري "سيد كريم" (1911 -2005)،). واليوم عندما نلحظ تقارب "اللغة" التصميمية الموظفة في منتج"عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ" المعماري وبين الخصائص التصميمية في كلا المبنيين: الدامرجي، ومبنى المنصور، وكذلك نرى تماثل استخدام "تفاصيل" معمارية بعينها، مع محاولات توظيفات مشابه لمفهوم "التكتونك" Tectonic المعماري (وهو مفهوم يدلل على توظيف النظم التركيبية للحصول على قيم جمالية) وغير ذلك من السمات المشتركة بين تصاميم هذين المبنيين ونهج مقاربة "جَبْرْ" التصميمية، فضلا على واقعة "تماثل" الحلول التصميمية المعتمدة في عمارة مبنى "جورج وهلال الشماع" في شارع عرابي بوسط البلد بالقاهرة، على سبيل المثال، مع عمارة "مبنى المنصور" ببغداد؛ يجعلنا، كل هذا، نقتنع، وبترجيح قوي، بان معمار ذينك المبنيين هو المعمار المصري "عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ"، وليس معمارٌ آخراً.
رغم ان المعمار "عَلِي لَبِيبْ جَبْرْ" شغل مناصب اكاديمية متعددة وبفترات زمنية طويلة، الا انه لم يستجب الى هاجس نداء "الكتابة المعمارية"؛ شأنه في ذلك، شأن الكثير من زملائه التدريسيين وقتذاك، الذين "تجاهلوا" هذا النشاط المعرفي، المتمظهر باعداد وتأليف "كتب" توضح مناهجهم الفكرية والمهنية مفضلين، على نحو واسع، ممارسة العمل المهني والانشغال كلياً في العملية التصميمية. ولكن مع هذا، فان بعض تعابير "الاقوال" التى صرح بها المعمار "جَبْرْ" في مناسبات عديدة تكشف لنا خصوصية مقاربته التصميمية وتعكس بصدق نهجه المعماري. ادناه احدى تلك "التعابير" المستلة من <شهادات> معمارنا الرائد:
".. العمارة يجب أن تكون ذات شكل خارجي متميز بالإضافة الى قلب داخلي ناجح وظيفياً. تماما كالساعة تزداد قيمتها بدقة التفاصيل الخارجية والداخلية على حدِ سواء. فكما تظهر مهارة الصانع في الاهتمام بأدق التفاصيل الخارجية والداخلية التى تجعل من مظهرها الخارجي وأدائها منظومة تجمعع بين الدقة والجمال، هكذا يجب أن يحاكيها المعماري بالاهتمام بأدق التفاصيل".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram