ستار كاووش
تمتلأ شوارع وساحات مدينة فيينا بإعلانات المعارض التي تقام هنا وهناك دون توقف، وقد إحتلتْ إعلانات متحف ليوبولد أماكن مهمة من المدينة، حيث لا تنعطف نحو ساحة أو شارع إلا وتداهمك لوحة كليمت التي استثمرها المتحف كإعلان عن نفائسه وكنوزه الفنية، وحتى حين صعدت المترو كان بإنتظاري إعلان مهم لمتحف ليوبولد، وهو عبارة عن واحدة من لوحات الفنان كريستيان تشاد التي طُبِعَتْ كاملة على غلاف مجلة (فور ماغازين) التي عُلِّقَتْ نسخها قرب الكراسي لأجل القراءة المجانية للركاب.
هكذا كان عليَّ أن أقضي هذا اليوم في متحف ليوبولد الذي أسسه الزوجان رودولف واليزابيث ليوبولد، ووضعا فيه مجموعتهما الشخصية من الأعمال الفنية المهمة، قبل أن يمضيا بخطوات ثابتة لتطوير المتحف الذي إنتقلَ أخيراً الى مكانه الجديد سنة ٢٠٠١ ببناءه الأبيض الذي يصل اليه الزائرون من خلال مدرج واسع. وما يعطي لهذا المتحف أهمية خاصة هو إحتواءه لمجاميع نادرة توزعت هنا مثل أقمار صغيرة باهرة، منها مائتين وخمسين لوحة للفنان أيغون شيله، والتي تعتبر أكبر مجموعة له في العالم، كذلك مجموعة أخرى مذهلة للفنان غوستاف كليمت، إضافة الى أعمال أوسكار كوكوشكا ولوحات التعبيريين النمساويين، كذلك يحتوي المتحف على مجموعة كبيرة من لوحات القرن التاسع عشر والعشرين، وبجانب كل ذلك هناك قطع الأثاث النادرة التي تعود لفترة الآرت نوفو. كل هذه التحف وغيرها جعلت متحف ليوبولد محط أنظار الفنانين والمهتمين بالفن وحتى أصحاب المجاميع الخاصة الذين يتطلعون بعين فاحصة لمجموعة كل فنان هنا، يدفعهم الفضول والتقصي لمعرفة الأسباب التي جعلت المتحف يضم هذه اللوحات دون غيرها.
يالها من فرصة نادرة لمشاهدة هذا العدد الكبير من لوحات إيغون شيله، والتمتع بعالمه الفريد وتقنيته الفاتنة وحركة فرشاته الواثقة التي يتوقف أمامها بإعجاب قَلَّ نظيره أغلب رسامي العالم، وخاصة البورتريت الصغير الذي رسمه لنفسه والذي عُلَّقَ بجواره البورتريت الذي رسمه لحبييته عارضة الأزياء فالي، وكأنهما مازالا يتحاوران معاً بعد كل هذه السنوات. وبوريت فالي كان قد إستولى عليه أحد النازيين من مالكه الأصلي خلال الحرب العالمية الثانية، ثم اشتراه المتحف بعد سنوات عديدة دون التأكد من مرجعيته، لذا وافق المتحف في النهاية على دفع قرابة خمسة عشر مليون دولار لورثة المالك الأصلي للعمل، لتبقى هذه اللوحة إحدى تُحف هذه المجموعة النادرة. مضيت أتجول بين أعمال شيله وفرشاته القلقة وخطوطه المتكسرة، لأتوقف أمام لوحته (الراهبة والكاردينال) اللذان أظهرهما وبكل جرأة في لحظة جريئة ومشهد عاطفي مليء بالشبق عكس ما هو متوقع. وتكوين هذه اللوحة مثلث الشكل بألوان داكنة ينبثق من بينها لون أحمر فاقع. تكوين مؤثر وعيون خائفة وحذرة ويدان تلتصقان بالجسدين، فيما الأرجل تنزاح نحو جانبي اللوحة. أهم ما نشاهده في هذه اللوحة هو تكوينها الذي إستلهمه الفنان بشكل كامل من لوحة غوستاف كليمت (القبلة) وهنا تظهر ظلال هذا الاستاذ العظيم على أعمال شيله الذي يعتبر كليمت بمثابة قديس أو نصف إله. وفي صالة أخرى يظهر تأثير كليمت من جديد حيث أخذت لوحة (الناسكان) التي رسم فيها شيله نفسه صحبة كليمت العظيم ومنح شكلهما هيئة الناسك، حيث يقف الرجلان هنا بملابسهما الفضفاضة المعتمة وعيونهما الجاحظة، وقد إلتَفَّ على رأس كل منهما عقد من الزهور. وهذا يؤكد حجم العلاقة بين هذين الفنانين وحجم التأثير الذي تركه كليمت على هذا الفنان الشاب (توفي شيله بعمر الثامنة والعشرين). كان كليمت في ذلك الوقت منشغلاً برسم نساءه الجميلات بطريقة لم نر لها مثيل في تاريخ الرسم، وجاء شيله ليحملَ تأثيرات أستاذه ويمضي في طريق شخصي فيه الكثير من التعبيرية، مع بعض اللمسات التكعيبية، لتكون أعماله بشارة فنان جديد وعظيم في فيينا.
تنقلتُ من صالة الى أخرى في هذا المتحف الذي يضم خمسة آلاف وأربعمائة عمل فني، متجولاً بين تموجات وانعطافات التعبيرية، حتى إنفتحت أمامي صالة تتصدرها لوحة (اليوم الرمادي) للتعبيري الألماني جورج غروس بمناخها البني الممزوج بالرمادي، والتي يتضح فيها إسلوب غروس في الوقوف ضد النازية وآثارها المدمرة، حيث مُعاقي الحرب والشوارع المهملة والناس الذين يمضون بحذر مشوب بالخوف، جدران محطمة ونفوس أكلتها الحرب، مصنع بعيد يتصاعد منه الدخان في عمق اللوحة وشخص دون ملامح يمضي للعمل وسط الخراب، وجندي مقطوع اليد يمشي على عكازة، بينما حديثي النعمة وأغنياء الحرب يتصدرون المشهد بعد كل حرب، تماماً كما يتصدر هذه اللوحة، شخص بدين بملابسه الأنيقة وقبعته التي تكاد لا تكفي لتغطية رأسه الضخم، فيما شارة علم البلاد تزين صدره كنيشان زائف.
لوحات تشغل صالات لا حد لها ولا يمكن الإلمام بها كلها، وعالم من الجمال والتقنيات والأساليب، تُشير جميعها الى روح الفن العالية والأثر الذي تركه هؤلاء المبدعين الذين تجولتُ بينهم وبين أعمالهم، ليكون بيننا نوعاً من الحوار الجمالي والانساني الذي يؤكد بأن الفن بنوافذه المشرعة ورسائله المفتوحة هو أكثر ما يقرب الناس من بعضهم البعض.