د. فالح الحمــراني
يثير عدد من الخبراء تساؤلات حول مصير الطوائف الدينية والأقليات القومية في سوريا بعد استيلاء هيئة تحرير الشام، وهي فرع سابق لتنظيم القاعدة كان يعرف سابقاً باسم "جبهة النصرة"، على السلطة والتي سعت في السنوات الأخيرة إلى وضع نفسها والزعم بانها منظمة أكثر اعتدالاً! فضلا عن ذلك بدأت تظهر للعيان أكثر فأكثر الخلافات بين القوتين الأكبر في الهجوم على القوات السورية المسلحة. *
ويبقى أن نرى ما سيحدث فعلا للمسيحيين والأكراد والعلويين والأقليات الأخرى في المناطق التي تسيطر عليها الآن هيئة تحرير الشام و"الجيش الوطني السوري" وهو تحالف من الجماعات المتمردة المدعومة من تركيا. ومع ذلك، منذ سقوط حلب كانت هناك علامات على أن هيئة تحرير الشام والجماعات المتمردة التي تهيمن عليها وبهدف تحسين صورتها أمام العالم، سرعان ما أصدرت بيانات تقول إنه سيتم حماية المسيحيين. وألقى زعيم "هيئة تحرير الشام"، وهي جماعة متمردة أخرى متشددة، خطابا دعا فيه إلى الوحدة وحماية المسيحيين والأرمن. كما أظهرت مقاطع الفيديو والتقارير الواردة من المدينة أن المسيحيين يعيشون حياة طبيعية ويستعدون لعطلة عيد الميلاد ويصلون في الكنائس. لكن، بحسب الكاتبة والناشطة البريطانية السورية ليلى الشامي، فإن التغييرات الحقيقية في المواقف "ستظهر على المدى الطويل". وتضيف: "سوف يشعر الناس بالقلق من سلوكيات منظمة تستخدم لغة ومفاهيم إسلامية متطرفة وما سيعنيه ذلك بالنسبة لهم على المدى الطويل لو سيطروا على الحكم". وكانت علاقة الأقليات السورية مع المتمردين متوترة منذ بدء الحرب في عام 2011. وفي الوقت نفسه، فإن معارضة الأسد موجودة في جميع طبقات المجتمع السوري، بما في ذلك طائفته العلوية.
ومع ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه مع تقدم الصراع، أصبحت العديد من الجماعات المتمردة السنية متشددة للغاية على نحو متزايد، وقمعت الجماعات المتطرفة مثل "هيئة تحرير الشام" الجماعات الأكثر اعتدالا، مما أدى إلى نفور الأقليات والعديد من السنة أيضا. و"يحاول النظام تقديم نفسه كحامي للأقليات. وفي الواقع، فإن الكثير من هذه الطائفية خلقها النظام"، كما تعتقد الشامي. "على سبيل المثال، عندما اعتقل المتظاهرين السلميين المؤيدين للديمقراطية في عام 2011، أطلق سراح الإسلاميين المتطرفين الذين انضموا فيما بعد إلى الجماعات الأكثر عنفاً". كما اتُهم نظام الأسد باستهداف المجتمعات السنية خلال الحرب الأهلية، مما زاد من التوترات الطائفية.
وقال جوزيف داشر، الأستاذ السويسري السوري في جامعة لوزان، إن النفوذ المتزايد للجماعات الأصولية الإسلامية، مثل تنظيم داعش، في النصف الأول من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فضلاً عن عسكرة الثورة السورية "أخافت جزءاً كبيراً من السكان، بما في ذلك الأقليات". إن ما واجهه الكثيرون في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، بما في ذلك المذابح ضد العلويين والدروز وجماعات أخرى، لم يؤد إلا إلى تقويض ثقتهم في المعارضة المسلحة السورية. وما يزال عدد قليل جدًا من المسيحيين في إدلب، التي كانت واحدة من آخر معاقل المعارضة قبل الهجوم الأخير، وعلى الرغم من أن "هيئة تحرير الشام" قامت بعدة محاولات للمصالحة معهم ومع الجماعات الأخرى، إلا أنه كان من الصعب التغلب على أصداء أفعالها السابقة. ويبدو أن العديد من الجماعات المتمردة، وأبرزها هيئة تحرير الشام، قد ابتعدت في السنوات الأخيرة، عن الخطاب الجهادي إلى خطاب وطني أكثر قوة. "إنهم يريدون تحديد أهداف ضمن برنامج وطني. فهل هذا يعني أنهم ليسوا سلطويين أو أصوليين؟ لا، هم ليس على هذا النحو"، كما قال جوزيف داشر، مذكراً بأن موقف "هيئة تحرير الشام" سيئ تجاه الحريات السياسية وحقوق الإنسان. ويعتقد روبن ياسين قصاب، الخبير في النزاع السوري، أن الجماعات المتمردة "تعلمت بالفعل بعض الدروس". "من الواضح أنهم باتوا يدركون بجدية شديدة في أن عدم الانضباط والنهب والعنف الطائفي التي مارسها المتمردون في الماضي قد تلحق التمرد بأضرار جسيمة. وأضاف: "لقد تم القيام بالكثير من العمل خلف الكواليس لتنظيم وتأديب المقاتلين، ومراعاة حقيقة أن سوريا مجتمع متعدد الأعراق". ويقول داشر ينبغي على المتمردين بذل المزيد من الجهود لإقناع الناس بأنهم يحترمون الحقوق الديمقراطية والمساواة لأن مجرد السماح للمسيحيين بالصلاة في الكنائس ليس كافيا.
وفي الوقت نفسه، نلاحظ أن الخلافات قد بدأت بالفعل تتعمق بين المسلحين. ففي حين حقق الهجوم الأوسع للمتمردين في شمال غرب سوريا مكاسب كبيرة في الأيام الأخيرة، تشير بعض المصادر المحلية إلى أنه سيكون من الخطأ التفكير في الهجوم باعتباره مؤشراً على وحدة جديدة تامة للمتمردين.
وبشكل أساسي، مع تقدمهم، انقسموا إلى مركزين للعمليات، مما سيؤدي إلى تقسيم المناطق المكتسبة حديثًا بين نظامين إداريين التي تشكلت الآن للمناطق التي يسيطرون عليها. ومن هذه المراكز العملياتية "إدارة العمليات العسكرية" التي تترأسها "هيئة تحرير الشام"، وستقوم ما تسمى بحكومة الإنقاذ المدعومة/التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام التي تحمل عمليتها اسم "احتواء العدوان" بإدارة أي منطقة يسيطر عليها هذا المركز العملياتي جغرافيًا. ويمكن ملاحظة ذلك بالفعل في مدينة حلب، على سبيل المثال، في المخابز التي تديرها هذه الحكومة. وستخضع مدينة حماة التي غدت تحت سيطرة إدارة العمليات العسكرية أيضاً لسيطرة حكومة الإنقاذ.
ومركز العمليات الآخر يسمى بـ "فجر الحرية"، يقوده الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا. وعلى الرغم من أن أعضاء بعض فصائل ما يسمى ب "الجيش الوطني السوري" (مثل جبهة الشام) شاركوا أيضًا في إدارة العمليات العسكرية، إلا أنهم لعبوا دورًا ثانويًا مقارنة بهيئة تحرير الشام وحلفائها المقربين من المتمردين من مقر عمليات "الفتح المبين"، الذي كان ينشط في محافظة إدلب وضواحيها، حتى بداية الهجوم الأخير للمتمردين، تحت قيادة "هيئة تحرير الشام". وتتقدم مقرات عمليات "فجر الحرية" من ريف حلب الشمالي، وقد استعادت، على سبيل المثال، بلدة تل رفعت من قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد. وكل ما سيسيطر عليه ستديره مؤسسات مرتبطة بما يسمى ب "الحكومة السورية المؤقتة".
وبالتالي تتبلور منافسة واضحة بين مقري العمليات، للاستحواذ على الأراضي والأصول في محافظة حلب، نظراً لأهميتها الاقتصادية. وظهر في 3 كانون الأول بيان منسوب إلى "فجر الحرية" يدين أنشطة "هيئة تحرير الشام". وتجدر الإشارة إلى أن هذا البيان حقيقي بالفعل، لأنه جاء من القناة الرسمية لقسم العمليات على شبكة واتساب الاجتماعية. فما هو سبب هذا البيان؟ السبب الرئيسي هو أن فرقة "السلطان مراد" (وهي مجموعة متمردة تابعة للجيش الوطني السوري قريبة بشكل خاص من تركيا) تقدمت نحو محطة للطاقة الكهربائية الحرارية شرق مدينة حلب، ولكن هيئة تحرير الشام دخلت بعد ذلك واستولت على محطة الطاقة الحرارية تلك. وجاء في هذا البيان، في جزء منه، أن: "هذا السلوك من جانب هيئة تحرير الشام يدل على نيات غير صحية وفئوية ورغبة في تحقيق مكاسب خاصة بها. وهذا يتناقض مع كل تصريحات "هيئة تحرير الشام" حول الوحدة ورفض الاختلاف. وأضاف البيان "لذلك نطالب هيئة تحرير الشام بالوقف الفوري للعدوان على فصائل الجيش الوطني ومقرات عمليات فجر الحرية. وإعادة المبنى الذي قمنا بإخلائه إلى حالته السابقة. والتحلي بالمسؤولية الوطنية والتخلي عن السياسات التي تهدد وحدة الصف الثوري. وندعو الفصائل المشاركة في قوة ردع العدوان إلى إعادة تأكيد موقفها من سلوك هيئة تحرير الشام تجاه إخوانهم في قوة "فجر الحرية".
ويقول بعض الخبراء إن المشكلة الأكبر بالنسبة للأقليات تكمن في طبيعة المتمردين المنتمين إلى ما يسمى ب " الجيش الوطني السوري"، وهو تحالف من الفصائل المدعومة من تركيا. فمقاتلو الجيش الوطني السوري "معروفون بعدم انضباطهم وإجرامهم". ويعتقد الخبير روبن قصاب "أنهم قطاع طرق". وقد شوهد بالفعل أعضاء من ما يسمى ب " الجيش الوطني السوري" وهم يقومون بتخريب متجر لبيع المشروبات الكحولية معفاة من الرسوم الجمركية في مطار حلب الدولي، وأنهم ضايقوا وضربوا أعضاء الجماعات المسلحة الكردية بعد الاستيلاء على أراضيهم. وعلى خلفية الصراع الطويل الأمد بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني" والجماعات التابعة له، فضلاً عن المعارك السابقة بين الثوار السوريين المدعومين من تركيا والقوات الكردية، يقول ضاهر إن كيفية تعامل هذه الجماعات مع المدنيين والمقاتلين الأكراد" يثير الخوف الأكبر". وأصدرت "هيئة تحرير الشام"، التي تخوض بالفعل حرباً كلامية متوترة وعلنية مع ما يسمى ب "الجيش الوطني السوري"، في 2 كانون الأول، بياناً لتحسين صورتها، قالت فيه إن الأكراد" جزء لا يتجزأ من الهوية السورية المتنوعة التي نعتز بها جميعاً" وأنهم سيتمتعون "بالحق الكامل في العيش بكرامة وحرية. ولن نسمح لأحد بتعطيل أو محاولة تقويض الأخوُّة والتعاون بين جميع شرائح المجتمع السوري".
وبينما أعطيت تطمينات للمسيحيين والأرمن والأكراد، أعطيت ضمانات مقتضبة للشيعة والعلويين السوريين بحقهم في العيش بكرامة وحرية. ورغم توفير الضمانات للمسيحيين والأرمن والأكراد، فقد يكون الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للسوريين الشيعة والعلويين على المدى القصير. واستولى المتمردون مؤخراً على مدينتي الزهراء ونبل، وهما مدينتان شيعيتان. بالقرب من حلب، حيث بقي المدنيون بعد رحيل الجيش السوري والجماعات المتحالفة معه. و"سيكون هناك الكثير ممن يريدون الانتقام، لذلك سيكون من المثير للاهتمام رؤية ما يحدث للسكان المدنيين في هاتين المدينتين. وقال روبن قصاب: "إذا عاملوهم بشكل جيد نسبياً، فأعتقد أن ذلك سيرسل إشارة جيدة إلى المجتمع العلوي". ومع ذلك، يتفق الخبراء على أنه إذا كانت الجماعات التي تهيمن عليها "هيئة تحرير الشام: والتي تصنفها الأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول غربية أخرى وروسيا منظمة على أنها "إرهابية"، جادة في الظهور كلاعب سياسي شرعي في سوريا، فقد تتظاهر لتحسين صورتها على أنها "معتدلة" قدر الإمكان. "هناك تفاهم في قيادة الهيئة السياسية على: "أنهم إذا دخلوا حلب كجهاديين لإخضاع الطوائف الأخرى، فإن العالم سيبتعد عنهم منذ اليوم الأول". كما يقول روبن قصاب. ويضيف: "فدعونا نأمل في أن يؤثر نفس التفكير السياسي الناضج على الموقف تجاه العلويين". ولكن هذا السؤال يبقى مفتوحا.
- استفادت المادة من مواد ذات صلة نشرت في وسائل الإعلام الروسية.