طالب عبد العزيز
كلنا طالع وجوه الخارجين من سجون بشار الأسد، مثلما طالعنا بالأمس وجوه الخارجين من سجون صدام حسين، وكنا قد رأينا بأعين أهلنا وجوه الذين خرجوا من سجون الكوت، والحلة، والبصرة، ونقرة السلمان، وقصر النهاية، وسجن بغداد، حيث كان موسى الكاظم، ومن قبل ذلك سجون الحجاج بن يوسف في الكوفة والشآم وسجون الانسانية في أقصى وأدنى الارض.. هذه الحجارة القبيحة وهذه الحبال اللعينة الى متى؟ والى متى ستظل؟ ولماذا لا تهدم إلا بعد حمامات الدم ومحارق الأجساد وتفتيت الأرواح؟
بعد كل انقلاب تهرع الناس لفتح أقفال السجون، وكأنها لازمة عربية بامتياز، يترك الانقلابيون كلَّ شيء ليبحثوا في الوهاد البعيدة وتحت الأرض عن سجون الذين أطيح بهم، وتكثر القصص والحكايات، ويتأسطر الحدث، فيصغى لنداءات تأتي من أعماق الحجر، نداءات تظلُّ مبهمةً في الأخير، مهما فتح من طبقات وابواب ونوافذ، ومهما كسّر من القفال، وإن فرح ذوو هذا السجين بالعثور على ضالتهم، وإن تراكمت صور المتعانقين عند أبوابها، وإن حُمل ما ظلَّ من عظام وثياب، ثمة نداءات سيظل يطلقها سجناء مجهولون، كانت طبقات الأرض قد تداككت عليهم، ولم تتمكن آلة الحفر من بلوغ زنازينهم.
ما انتفاعه بهواء الحرية، بل وما انتفاعه بالفضاء كله ذاك السجين الذي عثر عليه مجنوناً في أحد طامورات الأسد السرية؟ وكيف سيستعيد طعم البيت والاسرة والثياب والشوارع والمقاهي وقد أتيحت له بعد أربعين سنة؟ وأي معنى لحديثه وقصصه التي سيرويها لنا، وماذا سيطيب لنا من حديثه، نحن الذين سننقل مادة حياته التي أمضاها تحت الأرض الى الورق والكاميرات والتلفزيون؟ من سيضع حدّا فاصلاً بيننا والسجون الجديدة القادمة، هل بيننا من يطمئِّنُ نفسه قائلاً:" إنَّ الثورة وقادتها سيضعون حداً نهائياً للظلم والتعسف والقهر، فلا سجون للحرية بعد ذلك!!. نفرح قليلاً ونحزن مديداً، إذْ قليلة هي الاقفال التي تفتح في الزمن، إنْ هي إلا أيامٌ وتستعاد بأيدي الفاتحين الجدد، ذلك لأنَّ حجارة السجن وحجارة السراي الحكومي من مقلع واحد بتعبير روبرت فروست.
وجدت صحافة الأحزاب العراقية الحاكمة في الخبر السوري مادتها، وصارت الكاميرات تنقل ملامح وجوه الخارجين من سجن صيدنايا بدمشق، لكأنها تخفي بذلك وجوه المئات من التشرينييّن، الذين قتلهم رجالها، والذين مازالوا في سجونها، غير المعرّفة عند السلطات الرسمية حتى، في قبح ما بعده من قبح، لكأنَّ أحرار العالم بلا وجوه، بلا آذان وعيون وأفواه، ولعل أسهل ما تفعله لطمر حقيقة سجونها وقبيح أفعالها هو نقل حقيقة سجون الآخر، فهي تستأثر بفضاء الحرية الذي تملكه، وتعتقده خصيصتها وحدها، وليس من حقِّ مخلوق آخر التنعم به.
يتبجح صحفيٌّ يقود منظمة كبيرة بأنَّ البلاد خالية من سجناء الرأي، وأنّ هواء الحرية في العراق متاح وحقٌّ للجميع، بما يذكرني بجملة كنت قرأتها في مجلة (المعرفة) قبل أكثر من ثلاثين سنة، تنسب للرئيس السوري حافظ الأسد: " لا راقبة على الفكر إلّا رقابة الضمير" هل نقول بأنَّ السفلة والانذال والحكام المستبدين هم آخر من يحق لهم التحدث عن الحرية والضمير؟
بعد سقوط الجنوب بيد الجيش البريطاني في آذار 2003 خرج مئات السجناء من (الليث الأبيض) وهو الاسم المشاع عن مبنى سجن مديرية الامن في البصرة، لهول ما فيه من تعذيب. وعلى الرغم من تعرض المبنى الى القصف، وسقوط الكثير من أحجاره إلا أنَّ ذوي بعض السجناء وأصدقاءهم وجيرانهم ظلوا يسمعون مصغين لنداءات سجناء آخرين، لم يهتد لبوابات سجنهم بعد، بما يوحي بوجود طابق أرضي للسجن، وبالغ آخرون بوجود أكثر من طابق، وهكذا كانت تتضاعف طبقات السجن، طبقة فوق طبقة، وظلَّ ذوو السجناء يسمعون النداءات. لم تحتف الأصوات، مازالت تسمع من هناك، لكنَّ أحداً لم يخرج.