توم هارتسفيلد*
ترجمة: لطفية الدليمي
الفوزُ بجائزة نوبل يعدُّ -بالقناعة السائدة عالمياً- الإنجاز المهني الأعلى لكلّ مشتغل بالعلم. غواية الجائزة تبقى دوماً عظيمة إلى حدود قد تدفعُ بحاملها إلى الشعور بأنّ أفكاره ومحاججاته لا ينبغي أن تكون عُرْضةً للمساءلة أو الإمتحان. هذا الوضع الفرداني الخاص -مضافاً له ضغوط الشهرة المتأتّية من الجائزة- قد يدفعُ الحاصلين على الجائزة إلى قضاء سنواتهم الاخيرة في مطاردة أفكار مستحيلة التطبيق، أو تنتمي إلى نطاق العلم الزائف Pseudoscience، أو أنها غير عقلانية بما يكفي لتكون مقبولة في الأدبيات العلمية العالمية.
قد يكون الفوز بجائزة نوبل العالمية (في العلوم على وجه التخصيص) هو الإنجاز الاكثر مجلبة للصيت والمكانة في العالم؛ ومن أجل هذا باتت هذه الجائزة توصفُ بأنّها التذكرة الذهبية للشهرة العلمية العالمية. لو شئنا الحديث بطريقة مهنية لقلنا أنّ أنّ الحاصلين على جائزة نوبل في الفيزياء أو الكيمياء أو الطب يستطيعون قضاء المتبقي من سنوات نشاطهم المهني وهم يبحثون في أيّ مبحث يختارونه، وبالكيفية التي يشاؤون. غالباً ما يصبحُ هؤلاء المتوّجون بنوبل المتحدّثين الرسميين المُعتمدين عالمياً في نطاقاتهم البحثية، أو قد يصبحون قياديين في مؤسسات بحثية أو وكالات حكومية. يمثلُ هؤلاء -باختصار- المثابة العليا للإنجاز البشري، وينالون معاملة تشي بهذه المثابة وتؤكّدها؛ لكنّ الشهرة العريضة والصيت الذائع غالباً ما يترافقان مع جوانب سيّئة أو مثالب مشخصة. كثيراً ما يُطلبُ من حَمَلة نوبل التعليقُ على موضوعات تقعُ خارج نطاق إهتماماتهم المهنية، وقد يتسبّبُ هذا الأمرُ في مخاطر جمّة وبخاصة عندما يكون الموضوع المطروح للتساؤل ذا إهتمام جمعي عام مثل موضوعات السياسة أو الدين أو الكائنات الفضائية الغريبة. ستيفن هوكنغ Stephen Hawking، وبرغم أنّه لم يكن من حاملي جائزة نوبل لكنّه وضع نفسه في هذا الموضع الإشكالي غير مرّة، وغالباً ما صرّح بأشياء بدت غير معقولة إلى حدود بعيدة، منها مثلاً تصريحاته بشأن الإنقراض السريع للبشرية، والتي بسببها بات يوصفُ نبيّ يوم الدينونة Doomsday Prophet.
ثمّة مثالب أخرى تترافق مع حيازة جائزة نوبل. في العادة يميلُ معظم العلماء الناجحين لتناول معضلات يمكن الوصول لحلول عملية مقبولة لها؛ لكنّ بعض العلماء الذين تحصّلوا على نوبل غالباً ما يجدون أنفسهم عالقين في شباك البحث لأنّهم لا يطيقون المعضلات التي يمكن الوصول لحلول عملية مقبولة لها؛ بل بدلاً من هذا يزجّون أنفسهم زجّاً غريباً غير مسوّغ في القفز إلى المعضلات الأكثر صعوبة واستعصاءً على الحل. حقق ألبرت آينشتاين Albert Einstein مكتشفات فيزيائية عظيمة كان يمكن لها أن تكون سبباً في نيله أربع جوائز نوبل إضافية غير تلك التي حازها عام 1921؛ لكنّه بدلاً من التركيز على إشتغالاته التي يمكن أن تأتي له وللعالم بثمار يانعة إختار قضاء الثلاثين سنة الأخيرة من حياته في مطاردة عبثية لنظريات المجال الموحّدة الكبرى التي توصف اليوم نظرية كلّ شيء Theory of Everything. كذلك فعل ستيفن واينبرغ Steven Weinberg، وهو عملاق فيزيائي آخر يناظرُ آينشتاين في سعة أفقه ومجال عمله؛ فقد قضى عقوداً طويلة من حياته مأسوراً بنظرية الأوتار String Theory وظلّ يطاردُ نسخته الخاصة من النظرية النهائية The Final theory. وصف ريتشارد هامنغ Richard Hamming، وهو أحد الحاصلين على جائزة نوبل، الأمر بالكيفية التالية عقب حصوله على الجائزة:" الآن فقط صار بمستطاعي التفرّغُ للعمل على المعضلات العظيمة ونبذ صغائر المعضلات. اليوم نلتُ حرّيتي المفتقدة ".
المشكلة مع أمر المعضلات العظيمة هو أنها غالباً ما تقودُ حامل نوبل إلى الوقوع ضحية ما يسمّى مرض نوبل Nobel Disease، وهو إصطلاح تقني يرادُ منه وصفُ حالة الغطرسة وفرط الثقة الذاتية غير المرغوب بها والمتفلّتة من كلّ كابح عقلاني والتي غالباً ما تكون خصيصة مرافقة لنيل جائزة نوبل.
سلوكُ (شوكلي) الصادم
كان ويليام شوكلي William Shockley أحد مخترعي ترانسستور الحالة الصلبة الحديث في مختبرات بِلْ الأمريكية الشهيرة. عمل شوكلي جاهداً ما استطاع لإشاعة منجزه وتنسيب الفضل فيه لنفسه بطريقة إحتكارية بعيدة عن اعتبارات اللياقة المهنية؛ بل حتى أنّه سعى لحذف صور المسهمين معه من الإعلام والإكتفاء بصورته، ومن ثمّ أراد إقصاءهم من جائزة نوبل، وقد حقّق ما أراد. حصل شوكلي على جائزة نوبل عام 1956 كإعتراف عالمي بأهمية منجزه فضلاً عن منجزات أخرى تقنية له؛ لكنّه تقاسمَ الجائزة مع زميل له هو جون باردين John Bardeen. عُرِف باردين بطبيعته المتواضعة ولين طباعه ودماثة سلوكه، وقد صار مع الأيّام تعِباً لا يطيقُ سلوك شوكلي وغطرسته المهنية في مختبرات بِلْ؛ لذا إستقال من العمل في تلك المختبرات وعاد ليعمل في نطاق الأكاديميا أستاذاً في الجامعة. ركّز باردين عمله الأكاديمي للبحث في موضوعة التوصيلية الفائقة Superconductivity، و قاده عمله هذا لنيل جائزة نوبل ثانية في الفيزياء.
شوكلي، وعلى نقيض باردين، تطوّر لديه مرض نوبل عقب حصوله على الجائزة. أسّس شوكلي أوّل شركة أمريكية -وعالمية أيضاً - لتصنيع الترانسستورات في أرض تطوّرت لاحقاً لتصبح ما بات اليوم يُعرفُ بوادي السليكون Silicon Valley في كاليفورنيا. جذبت شهرة شوكلي ومواهبه الفكرية العديد من أفضل الفيزيائيين الشباب اللامعين للعمل في شركته الناشئة؛ لكن برغم هذا ساهمت جائزة نوبل في إطلاق أسوأ خواص شوكلي من مخابئها؛ إذ تعاظمت موارد الشعور بجنون العظمة (البارانويا) لديه حتى بلغت مبلغاً دفعه لإخضاع موظّفي شركته إلى الإختبار في جهاز كشف الكذب. فضلاً عن سلوكه المضطرب هذا دفعته حاجته الأنوية المتعاظمة لتأكيد حجم عبقريته إلى إعتماد أفكار تبدو لامعة لكنها غير ممكنة عملياً وفقاً للتقنيات الممكنة والمتاحة، وعندما كانت أفكاره تفشل في بلوغ نهايات عملية كان لا يتورّع عن كيل سيل من الإهانة لموظّفيه، ولم يكتفِ بهذا الأمر بل جعل الإهانات تظهر على وسائل الإعلام. تسبّبت غطرسته آخر المطاف في دفع ثلّة من ألمع موظّفيه (وهم الذين أسماهم شوكلي "جماعة المتآمرين الثمانية") إلى الإستقالة من العمل في شركته، وقد صار كلّ واحد من هؤلاء الثمانية من أعلام التقنية العالمية وحقّق منجزات رائعة مشهودة: من هؤلاء مثلاً من أسّس شركة (إنتل Intel) التي يعزى لها الفضل في إختراع تقنية الرقائق الحديثة التي ساهمت في تصنيع الدوائر المتكاملة Integrated Circuits.
عقب هذه الكارثة التي حلّت بشركة شوكلي عاد إلى الحقل الأكاديمي مثلما فعل باردين قبله؛ لكنّه تخلّى شيئاً فشيئاً عن الفيزياء وراح يمضي وقته في التفكّر بموضوعات تختصُّ بشأن العِرْق والذكاء حتى بلغ به الأمر مبلغاً صار معه الناطق الرسمي بإسم حركة تحسين النسل Eugenics. دفعته آراؤه المتطرفة للتعامل مع زوجته الأولى وكأنّها نفاية لأنها جلبت له أولاداً أقلّ ذكاءً منه بكثير بسبب جيناتها السيئة، ثمّ تبرّع بنُطَفِهِ (حيواناته المنوية) لبنك خاص بالحفاظ على عيّنات من الحيوانات المنوية لحاملي جوائز نوبل، وبعدها عاش حياة عزلة أبعد فيها نفسه عن المجمّعات الجامعية. عندما مات شوكلي كان يُنظَرُ إليه على أنّه كائن أخرق تماماً حرص على تسجيل كلّ حواراته مع مراسلين لم يشاؤوا محاورته إلّا من أجل السخرية وتزجية الوقت وهو لم يدرك هذا. كان غائباً في عالم آخر هو من صنعه وغيّب عقله فيه.
من العلم إلى العلم الزائف
فيزيائي آخر، بريان جوزيفسن Brian Josephson، فاز بجائزة نوبل منفرداً لعمله البارع وهو لم يزل بعمر الثانية والعشرين، وأصلُ الجائزة هو محتوى رسالته للدكتوراه. هذا أمر غريب ومثير للغاية؛ إذ يشبه الفوز بسباق رالي عالمي للسيارات لمتسابق لم يزل يتدرّبُ للحصول على إجازة سياقة معتمدة. كيف عاش جوزيفسن في الأربعين سنة التالية عقب حصوله على الجائزة، وهي سنوات يمكنُ أن يحقق فيها منجزات عظيمة؟ لم يكن بمستطاع أحدٍ التشكيكُ بألمعية جوزيفسن ومقدرته الفائقة في العمل على أفكار جديدة. طوّر جوزيفسن لديه رغبة واهتماماً هوسياً بالتأمّل المتسامي الذي دفعه لتخصيص نصف قرن من عمره اللاحق في دراسة موضوعات التخاطر Telepathy والباراسايكولوجيا Parapsychology وتحريك الأشياء عن بعد Psychokinesis وسواها من اهتمامات العصر الجديد New Age. لم يرتدع جوزيفسن عن المضي في مباحثه غير المنتجة على الرغم من النقد العنيف الذي وجّهه زملاؤه له. ظلّ يبحث عن الوسطاء الروحيين والظواهر الخارقة للطبيعة؛ لكنّه عمل في الوقت ذاته على مفهوم الإندماج البارد Cold Fusion(محاولة الحصول على تفاعل إندماجي Fusion Reaction في درجة حرارة الغرفة بدلاً من أجواء خاصة تبلغ درجة حراتها ملايين الدرجات المئوية، المترجمة).
العديد من الحاصلين على جوائز نوبل خاضوا هذه التجربة الغريبة عقب حصولهم على الجائزة، وانتهوا في مسارات مهنية غير متوقّعة أو معيبة، وهاكمْ أمثلة: جيمس واتسن James Watson، المشارك في إكتشاف بنية المادة الوراثية DNA صرّح لاحقاً بميوله العنصرية. لينوس بولنغ Linus Pauling أمضى أواخر أعوامه مدافعاً عن أشكال شتى من الطب البديل، وقد روّج بقوة لشعار مفادهُ أنّ فيتامين سي هو علاج لكلّ إعتلال من الشيخوخة إلى السرطان إلى نزلات البرد العادية الشائعة، وقد دفعت آراؤه هذه الملايين من الناس لتناول كميات كبيرة من هذا الفيتامين عند شعورهم بأيّ طارئ مرضي. لوك مونتانييه Luc Montagnier، أحدُ المساهمين في إكتشاف فايروس نقص المناعة المكتسب HIV، صار أحد الدعاة الشعبيين لأنماط عديدة من الطب الهامشي. ثمّة في القائمة أسماء أخرى لكنني سأكتفي بهذا.
التعاطف مع ضحايا مرض نوبل
من اليسير دوماً إعتمادُ السخرية والنبذ إزاء أولئك الذين حازوا جوائز نوبل ثمّ صاروا لاحقاً ضحاياها. من ذا الذي سيشعرُ بالسوء والتعاطف مع شخص عنيد يقوده سلوك متغطرس ويأتي بأفاعيل غير عقلانية حتى لو كان من حَمَلَة جائزة نوبل؟ لكن برغم هذا يجب أن نضع في حسباننا دوماً أنّ السلوك المتمركز على الذات Eccentricity والذي يبدو لنا غير معقلن هو أحد الخواص المترافقة مع الألمعية الفكرية. يبدو الأمر أنّ ضواغط الشهرة عندما تضافُ إلى مزيج التمركز على الذات والنزوعات الميتافيزيقية عند بعض العلماء يمكن أن تدفع بهؤلاء نحو الحافة القصية التي قد تبلغ التطرّف والسلوك غير المعقلن وأحياناً الجنون؛ لذا علينا أن نتحلّى ببعض الكياسة والتعاطف معهم وفي الوقت ذاته أن لا ننسى أنّ ما قد يبدو لنا مرضاً نفسياً أو عقلياً قد لا يكون أكثر من تأثير جانبي للعظمة والقدرة على الإبداع.
- توم هارتسفيلد Tom Hartsfield: فيزيائي ومحرّر مشارك لموقع RealClear Science. حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس ويقود الآن سلسلة أبحاث في مختبر لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو.
- الموضوع المترجم أعلاه منشور في موقع BIG THINK الألكتروني بتاريخ 15 سبتمبر (أيلول) 2023 ضمن سلسلة The Past.