بغداد/ تبارك عبد المجيد
تعاني السجون العراقية من انتهاكات جسيمة بحق المعتقلين، حيث يتم استخدام التعذيب النفسي والجسدي بشكل منهجي، مع الإهمال الطبي وسوء المعاملة.
فيما تتنوع أساليب التعذيب بين الصعق بالكهرباء، التعليق من السقف، الاعتداءات الجنسية، وحتى ممارسات تعذيب مبتكرة ذات طابع ساخر ومروع. كل ذلك يحدث في ظل بيئة مكتظة بالسجناء، تفتقر لأبسط معايير الرعاية الصحية، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض بشكل واسع.
"حفلة يومية"
في مشهد يعكس القسوة المطلقة داخل السجون العراقية، كشف مصدر محلي من محافظة ذي قار عن تفاصيل مروعة للممارسات اليومية في سجن الأمن والاستخبارات في مدينة الناصرية. وبحسب المصدر، يخضع المعتقلون لجلسات تعذيب يومية يطلق عليها السجانون اسم "الحفلة" أو "السهرة اليومية"، وهي عبارة عن سلسلة من الإساءات المتواصلة التي تتسم بالتجرد من أدنى درجات الإنسانية.
تتنوع أساليب التعذيب بين الصدمات الكهربائية التي تُستخدم على الأعضاء الحساسة، إلى ممارسات ساخرة تعكس استهزاءً بحقوق المعتقلين.
في إحدى هذه الأساليب، تُرسم على الجدران صور لمولد كهربائي، أو دراجة هوائية، أو سلم، ويُجبر المعتقلون على محاكاة استخدامها بطرق تعذيبيه. وفي مشهد آخر، يُجبر المعتقل على ملء كيس بالماء ووضع رأسه داخله، قبل أن يتعرض للضرب المبرح حتى يفقد وعيه.
المتحدث الرسمي باسم المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، سرمد سعيد البدري تحدث بقلق عن الانتهاكات المستمرة التي تحدث داخل السجون ومراكز الاحتجاز في البلاد.
وأشار إلى ضرورة معالجة هذه الانتهاكات بشكل عاجل بسبب الظروف الصعبة التي يعيشها المعتقلون داخل هذه المراكز. وفقًا للبدري، تقوم المفوضية بعملها الرصدي والتوثيقي بشكل منتظم، مستندةً إلى المادة 5 من قانون المفوضية التي تمنحها الحق في زيارة السجون دون الحاجة إلى إذن مسبق.
وأوضح سرمد لـ(المدى)، أن "التحدي الأكبر الذي تواجهه المفوضية يكمن في ملف العدالة الجنائية، حيث يتم توثيق معظم الانتهاكات داخل مراكز الشرطة ومواقف التحقيق الأولي". وحسب ما ذكره، فإن الانتهاكات تشمل سوء المعاملة والتعذيب في مراحل التحقيق الابتدائي، وهو ما يعكس فشل النظام في توفير الحماية اللازمة للمتهمين أثناء الاستجواب.
وأشار سرمد إلى أن الانتهاكات داخل السجون، بما في ذلك الاكتظاظ الكبير، تمثل مشكلة أخرى يتم توثيقها في تقارير المفوضية. وأوضح أن "مراكز الاحتجاز التابعة لوزارة الداخلية والأجهزة الأمنية الأخرى غالبًا ما تشهد خروقات خلال التحقيقات، حتى مع وجود إشراف قضائي ومتابعة مستمرة من مجلس القضاء الأعلى، الذي يصدر تعليماته لمنع أي انتهاكات أو تعذيب أثناء التحقيق".
سرمد أكد أن المفوضية تستقبل الشكاوى المتعلقة بالانتهاكات من خلال منافذها المختلفة، حيث يتم إحالتها إلى السلطات القضائية والادعاء العام، بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية المعنية بالتحقيق. يتم توثيق هذه الشكاوى في تقارير رسمية ترفع إلى الجهات المعنية، بما في ذلك لجنة حقوق الإنسان النيابية. من خلال هذا العمل، تحاول المفوضية تسليط الضوء على الانتهاكات وتقديم الدعم للضحايا.
في سياق متصل، تحدث سرمد عن الجهود التي تبذلها المفوضية بالتعاون مع وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية الأخرى لتوفير برنامج تدريبي مستمر لتعزيز الوعي بحقوق الإنسان ومنع التعذيب أثناء التحقيقات. يشمل البرنامج خططًا سنوية تهدف إلى تحسين أداء العاملين في الأجهزة الأمنية، بالتعاون مع الهيئات ذات العلاقة، لضمان حماية حقوق الإنسان ومنع الانتهاكات أثناء الاستجواب.
تعذيب احترافي
من جانبه تحدث عمر العلواني، رئيس منظمة "حق" لحقوق الإنسان، بوضوح وشفافية عن القضايا التي تمثل جرحًا عميقًا في جسد حقوق الإنسان في العراق.
ووصف السجون العراقية بأنها تحولت إلى "أكاديميات لتخريج مجرمين"، بسبب انتهاك الحقوق وسلب الكرامة الإنسانية بشكل متكرر. العلواني أشار إلى أن الاكتظاظ في السجون أصبح ظاهرة معترف بها حتى من قبل الحكومة، مشددًا على أن هذا الوضع يفاقم من مشكلة الفساد المستشري في توزيع الحصص الغذائية، ما يؤدي إلى نقص التغذية الأساسية للسجناء رغم وجود ميزانيات مخصصة.
وأكد العلواني على التفاوت الكبير في ظروف السجون، موضحًا أن سجن الحلة، على سبيل المثال، يعد أفضل حالًا مقارنة بسجن الحوت، الذي يوصف بأنه الأسوأ من حيث الظروف. هذا التفاوت يعكس غياب سياسات واضحة لإصلاح منظومة السجون بشكل شامل. وأضاف أن التعذيب، الذي كان قائمًا في العهود السابقة، أصبح اليوم أكثر "مهنية واحترافية"، حيث يتم تنفيذه بطرق متطورة وأقل وضوحًا، مما يجعل من الصعب اكتشافه ومحاسبة مرتكبيه.
أشار العلواني إلى حادثة مؤلمة حصلت في محافظة النجف، حيث توفي شاب يبلغ من العمر 26 عامًا نتيجة التعذيب، بعدما تم احتجازه إثر مشاجرة كان من المفترض أن تنتهي بكفالته وإطلاق سراحه. هذه الحادثة ليست سوى حالة واحدة من بين مئات الحالات المتكررة في السجون العراقية، مما يدل على استمرار المشكلة بشكل متزايد. وأوضح العلواني أن السجون تفتقر إلى أي ملامح للإصلاح الفعلي، حيث تظل بيئات قاسية تعزز السلوك الإجرامي بدلًا من إصلاحه.
وأضاف العلواني أن النظام القضائي في العراق يساهم في تعقيد الوضع، حيث يتم تنفيذ أحكام قاسية بناءً على أدلة ضعيفة أو غيابية، مما يؤدي إلى إعدام أشخاص قد يكونون أبرياء. وطالب بضرورة تحسين ظروف السجون وتوفير الحماية للسجناء من التعذيب وسوء المعاملة، بالإضافة إلى ضمان العدالة والشفافية في الإجراءات القضائية. ودعا إلى إصلاح شامل في نظام السجون والعدالة الجنائية في العراق، مؤكدًا على أن السجون يجب أن تكون أماكن لإصلاح الأفراد، لا لتدميرهم.
وصفت لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب العراقي التقارير المتزايدة حول تصاعد حالات التعذيب في السجون ومراكز الاحتجاز بأنها انتهاك خطير للدستور العراقي والمواثيق الدولية. وأعربت اللجنة في بيان لها عن قلقها البالغ إزاء انتهاكات الكرامة الإنسانية التي تتمثل في انتزاع الاعترافات بالقوة وغياب المعايير القانونية، مؤكدة أن هذه الممارسات تهدد الثقة بين المواطن والدولة وتشوّه صورة النظام القانوني للبلاد.
دوافع التعذيب
من جهتها، تذكر فاطمة العاني، مستشارة المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب، أن "تقارير التعذيب الممنهج في السجون العراقية لا تزال تشكل دليلاً واضحًا على انتهاكات حقوق الإنسان".
واستشهدت العاني بتقرير لجنة حقوق الإنسان البرلمانية الذي أقر بوجود ممارسات تعذيب ممنهجة بحق المعتقلين، من لحظة اعتقالهم وحتى الإفراج عنهم أو محاكمتهم، مشيرةً إلى أن "هذا التقرير يدعم ما سبق أن وثقته منظمات دولية وتقارير صادرة عن المركز".
وقالت العاني لـ(المدى)، إن "هذه الانتهاكات تستند إلى دوافع متعددة، أبرزها الطائفية والانتقام والابتزاز". وأضافت أن "ظروف السجون وطريقة التعامل مع المعتقلين تعتبر أيضًا جزءًا من عمليات التعذيب، مؤكدةً أن هذه الممارسات تنتهك أدنى معايير الإنسانية ولا تلتزم بالمعايير الدولية لحقوق السجناء".
بالحديث عن تاريخ التعذيب في العراق، أشارت العاني إلى أن ظاهرة التعذيب بدأت مع الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وهو ما شكل نقطة تحول كبيرة في تاريخ البلاد.
وأوضحت أن الدستور العراقي كان يفترض أن يضع حماية الحقوق والحريات كأولوية، إلا أن هذه المبادئ "ولدت ميتة" على حد تعبيرها.
وأكدت أن الاحتلال يتحمل المسؤولية الكاملة عن بدء هذه المرحلة السوداء، فيما تواصلت الانتهاكات عبر الحكومات التي تعاقبت منذ ذلك الوقت.
وصفت العاني استمرار هذه الممارسات بأنه يشكل تهديدًا خطيرًا لحقوق الإنسان والحريات في العراق، مضيفةً أن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية كبيرة في مواجهة هذه الانتهاكات.
وانتقدت تراجع الدور الدولي في الضغط لوقف هذه الانتهاكات، مشددةً على أن استمرار التعذيب يعكس نهجًا ممنهجًا في التعامل مع السجناء بعيدًا عن أي رقابة أو محاسبة.
وحذرت العاني من تأثيرات ممارسات التعذيب على المدى القصير والطويل.
وأوضحت أن الأذى الجسدي والنفسي الذي يتعرض له السجناء يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوقهم الأساسية، خاصة مع تزايد أعداد الوفيات في السجون بسبب التعذيب أو نقص الرعاية الطبية.
أما على المدى الطويل، فقد نبهت العاني إلى أن هذه الانتهاكات تترك آثارًا مدمرة على النسيج الاجتماعي، حيث تؤدي إلى تفكك الأسر وتحولها إلى بيئات غير مستقرة. كما أن هذه العائلات قد تلجأ إلى أشكال مختلفة من الانتقام أو السعي لتحقيق العدالة بطرق غير قانونية.
ودعت العاني إلى أهمية بدء مرحلة جديدة تعيد احترام حقوق الإنسان وتضمن معاملة المعتقلين بطرق حضارية. وأكدت على ضرورة تحرك المجتمع الدولي والحكومة العراقية لاتخاذ إجراءات صارمة توقف هذه الانتهاكات وتمنع تكرارها في المستقبل.
يبقى المعتقلون في السجون العراقية ضحايا لنظام تعسفي يفتقر إلى أدنى معايير الرقابة والشفافية.
ورغم التنديد المحلي والدولي، لا تزال هذه الانتهاكات مستمرة دون أفق واضح للتغيير، مما يجعل الدعوة إلى إصلاح جذري لنظام السجون مسألة ملحة وضرورية لإنقاذ ما تبقى من إنسانية المعتقلين وحقوقهم الأساسية.