د. نادية هناوي
لم يعن النقد المعاصر بالتأسيس اللاواقعي الذي دشَّنه السرد القديم، بل عدّه طفوليا على أساس أن العنصر غير الواقعي بدائي، انتهى زمانه وعفت عليه موضوعات السرد الواقعية؛ فالناقد شكري عياد مثلا يرى أن هذه اللاواقعية تجعل الأدب طبيعيا وتقوم حجته في ذلك على أمرين: الأول أنها تستند إلى أعراف فنية عامة لا يكاد يحيد عنها، والثاني أنها في الأصل أدب مجتمع غير متمايز من داخله. ولا تقتصر الطبيعية - برأيه - على الموضوعات، بل تتوسع إلى البناء الفني فالقصة داخل قصة والراوي العليم وهو ليس صوت المؤلف وأن تسلسل الأحداث يجعل القارئ يشعر أنه في قلبها ومشغول دائما باكتشاف الحقيقة. هذه كلها يعدها الناقد عياد أمرا طبيعيا أيضا. وما ينتهي إليه هو أن الحكاية خبر استقل عن التاريخ، واكتسب قيمة أدبية خالصة حين عرفت الحضارة العربية طبقة متوسطة من التجار والكتاب وأصحاب الحرف ثم صار الخبر جنسا أدبيا يتشابه مع جنس أدبي حديث هو القصة القصيرة، والتشابه يكمن في وجود قائل وسامع، وأكد أننا إنما(نتحدث عن جنس أدبي لا نعرف بالضبط كيف تطور لأننا لم ندرسه قط دراسة عميقة ولكننا نعرف انه صحب حضارتنا العربية القديمة منذ بدايتها الأولى ثم سار مع تعقدها أشواطا وبقيت صورته الفطرية مع ذلك محفوظة وربما حية أيضا) وبالعموم فإن دراسة شكري عياد لنشأة القصة تبقى مؤطرة بنزعة فكرية تجاري حيثيات نشأة القصة الغربية.
ولقد كانت د. نبيلة إبراهيم أكثر انتباها إلى قيمة ما في سردنا القديم من موضوعات غير معقولة، جمع فيها الحكاء القديم بين البعدين الشعبي والرسمي وتلاقت عنده الناحيتان الشكلية والمضمونية. وتوصلت إلى أن الخرافة في السرد القديم نمط شعبي يتصل اتصالا مباشرا بفلسفة الشعب وعقيدته وهو ما يجعل إنتاجنا الأدبي الحديث يتفق في الخرافية أو اللامعقولية مع السرد القديم والإنسان الحديث يتفق مع الإنسان القديم في حيرته في هذا الوجود.
والأكثر أهمية من ذلك تأكيدها أن تطور الحياة أدى إلى تطور السرد فتزحزحت الموضوعات الخرافية والأسطورية وانفسح المجال(لعالم آخر براق يرتكز على الواقع ويبتعد عنه في الوقت نفسه، ذلك ان حدود الواقع لا تكفي لتفسير ما يجاوز أحداثه المنطقية وعندئذ يأتي القص ليصور هذا الشيء الغريب الذي قد يبلغ في غرابته حد الإبهار بطريقة من التعليل المقنع، ولكننا لن نقول إن القص في هذه الحالة هو الذي يقف بالإنسان على عتبة تمثل الحاضر بين الطبيعي وما فوق الطبيعي أو هذا العالم والعالم الآخر)
بمعنى أن تجاوز حدود الواقع هو شيء آخر غير المخاتلة في اللعب على الواقع. وإذا كان للشفاهية والشعبية أن تجعل السرد مستمرا في توظيف اللامعقول والمستحيل، فإن الكتابية والرسمية قلصت حدود التجاوز في السرد وقننتها بما هو واقعي ومحتمل. ومن ثم يكون القاص في السرد غير الواقعي أكثر حرية في التعبير. وتتمظهر هذه الحرية بالدرجة الأساس على الصعيد الموضوعي، فيحضر اللامعقول بديلا عن المعقول وليس إلى جانبه.
ورأى نصر حامد أبو زيد أن من الضروري أن يكون وجود المعقول جنبا إلى جنب اللامعقول محل إعجابنا وتقديرنا لتراث الآباء ولكن من دون الإعجاب غير المشروط الذي قد يصل إلى حدود التقديس(فهذا هو الجناية الحقيقية التي نرتكبها لا ضد أنفسنا وحاضرنا فقط بل ضد هذا التراث أساسا وإذ نفعل ذلك نكون مثل الوريث الأحمق أو الثري السفيه.. ولكي نكون ورثة جديرين بتراثنا العريق والعظيم فلا بد لنا من ان نعمق المعقول ونحيل اللامعقول إلى دائرة دراسة الحفريات)
إن هذا التأكيد على فاعلية اللامعقول واللاواقعي، يتضح في ما للسرد العربي القديم من موضوعات غير مألوفة وواحدة منها تتمثل في موضوعة (الخرق) التي بها يتجاوز الحكاء كل ما هو ممكن متكلما بالغريب والعجيب والسحري والطلسمي. وهو ما نجده جليا في الحكايات المليئة بالمغامرات الأرضية والسماوية والأبطال المسحورين والمتحولين. وعادة ما تتوزع أفعال الخرق بين الاكتشاف والتعرف والخطف والقتل والهرب والاحتيال وبخيالية عاطفية وأسلوب ملحمي وغنج عاطفي وبهلوانيات سحرية ومصادفات غير متوقعة.
ويتخذ الحكاء القديم في توظيف الخرق مسلكين يجعلان اللامعقول طبيعيا: الأول أن يكون ساردا مشاركا يجمع بين النقل الكلامي والفعل السردي، ويتميز الجاحظ بارتياد هذا المسلك كما في هذه الحكاية (قال الأصمعي: إن طول رمح رستم كان سبعين ذراعا من حديد مصمت في غلظ الراقود، فقلت ها هنا أعرابي له معرفة فاذهب بنا إليه فحدثه بهذا. فذهبتُ به إلى الأعرابي فحدثه فقال الإعرابي: قد سمعت بذلك وبلغنا ان رستم هذا كان هو واسفنديار أتيا لقمان بن عاد فوجداه نائما ورأسه في حجر أمه فقالت لهما: ما شأنكما فقالا: بلغنا شدة هذا الرجل فأتيناه.. فالقاهما إلى اصبهان فقبرها اليوم بها فقال الخليل قبحك الله ما أكذبك قال: يا ابن أخي ما بينا شيئا إلا وهو دون الراقود)
والمسلك الآخر يتمثل في جعل الحكاء مجرد ناقل عن مقول، فلا شأن له بالخرق ولكن هذا الإسناد يمنح الشخصيات مصداقية وفي الآن نفسه يبعد عن الحكاء الكذب. وإذا كان المسلك الأول قليل الاستعمال، فان الثاني كثيره لاسيما في حكايات الصوفيين التي تعج بالمعجزات.
وقصدهم ليس نقل الأخبار التاريخية والحكايات المروية للتفكه بتلك الكرامات، بل التعلم من مقاصد العلماء والفضلاء وتقوية الإيمان بالله. ومن ذلك مثلا قصة الغار والرهط الثلاثة الذين دخلوه وانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الباب وهي قصة معروفة التفاصيل. ومثل ذلك قصة الفيلسوف الذي صدَّق ما كان ينكره وقصة ابن هولاكو الذي أسلم.
وتشتمل حكايات الخرق على المخاتلة في تقديم نماذج إنسانية هي عبارة عن جمادات وحيوانات وموتى يتكلمون أو في شكل أناس لهم قدرات مستحيلة كأن يصبروا على عدم الطعام أو يتمكنوا من الرؤية من وراء الحجب، كحكاية الشيخ أبي إسحاق الشيرازي الذي كان يشاهد الكعبة وهو في بغداد.
ولا تخلو كتب الرحلات من موضوعة الخرق لاسيما من ناحية وصف الأمكنة، فقد ساق ابن بطوطة قصصا عدها عجيبة منها قصة سمعها عن عمود من الرخام هائل رآه في إحدى المدائن ويسمى بعمود السواري. ونجد موضوعة الخرق في المرويات التاريخية أيضا وفيها يكون المؤرخ حكاء ينقل خوارق وقعت لكنها تبدو بالتحبيك المنطقي قد حصلت وبواقعية، ومن ذلك مثلا ما حكاه المقدسي عن دور مسلم بن عقبة في "وقعة الحرة"
ومن المرويات التاريخية الموظفة لموضوعة الخرق قصة حياة(بابك الخرمي) وتبدأ من طفولة بابك وتنتهي بإعدامه، وجاءت فيها طلسميات عدة تتعلق بما كان قد وقع له من أمر جعله ذا قوة وبطش بالناس و(انه قتل ألف ألف إنسان من بين رجل وامرأة وصبي وذكر في التاريخ ان جميع من قتل بابك مائتا ألف إنسان وخمسة وخمسون ألف إنسان وخمس مئة إنسان والله اعلم.. ثم قبض الافشين على "بابك" وجاء به المعتصم وهو بسّرّ من رأى فطقت يداه ورجلاه وصلب وزعم قوم أن بابك الملعون لما قُطعت يده لطخ وجهه بدمه وضحك.. انه لم يؤلمه القطع وأن روحه ليست تحس بشيء من ذلك..)
من مسالك الإبهار والمخاتلة السردية
نشر في: 15 ديسمبر, 2024: 12:29 ص