لطفية الدليمي
تخيّلوا معي المشهد التالي: يصرّحُ أمريكي في لقاء تلفازي، وبكلّ أريحية واسترخاء، بأنّ أمريكا صناعة بريطانية إستعمارية، وأنّ مصالح بريطانيا تتقدّمُ في سلسلة أولوياته على المصالح الأمريكية. ما الذي نتوقّعه؟ سيتحرّك جهاز ال FBI أو المدّعي العام الفدرالي الأمريكي لتحريك قضية ضدّه بتهمة الخيانة أو - لو شئنا تلطيف عنوان التهمة- الإخلال بقَسَم الولاء لأمريكا. لن ينفعه من الأمر شيءٌ لو كان -مثلاً- قسّاً أو أسقفاً كاثوليكياً وأعلن ولاءه لبابا الفاتيكان على حساب المصالح الأمريكية. الولاء هو الولاء ولن يكون لعبة يلهو بها من يشاء وكما يشاء وقتما يشاء.
صرنا في عراق ما بعد 2003 نسمع كثيراً من الكلام الذي يسعى مُروّجوه للطعن بالثقافة العربية وعروبة العراق، وكذلك تقزيم العراق من مدخل اعتباره صناعة بريطانية استعمارية. إنّه السمّ الزعاف منقوعاً في العسل المشتهى.
كلّ الدول صناعة بشرية. ما مِنْ دولة إختصّت لنفسها بكونها صناعة سماوية (أو جَعْلاً إلهياً بلغة متطرّفي العروبة). أمريكا ذاتها بدأت بثلاث عشرة ولاية ثمّ راحت تتوسّعُ مرّة بشراء الأرض وأخرى بوضع اليد عبر القوة المسلّحة. تركيا هي الأخرى إنكفأت على حالها بعد الحرب العالمية الأولى وارتضت مرغمةً بالجغرافية الأتاتوركية التي صنعها الحلفاء المنتصرون. إيران هي الأخرى، لم يكن أمراً غريباً لو أنّ (الأحواز أو عربستان) لم تكن جزءاً من جغرافيتها المرسومة بالمقصّ البريطاني. فضّل البريطانيون توزيع حقول النفط العملاقة في منطقة الشرق الأوسط لكيْ لا تتمركز في بلد واحد، ولولا هذا التخطيط الستراتيجي لكانت عربستان جزءاً من الجغرافية العراقية. لا أحد من أولئك الذين يجهرون بأنّ العراق صناعة بريطانية استعمارية سيجهر بذات القوة ليصرّح أنّ إيران أو تركيا صناعة (حُلَفائيّة) استوجبتها مفاعيل الحرب العالمية الأولى وتوزيع غنائم الطاقة في المنطقة.
يدعو غلاة المتأسلمين اليوم إلى ما دعا إليه غلاة العروبيين في الأمس وإن إختلفت حيثياتُ الدعوة. دعا العروبيون المتشدّدون إلى كائن عروبي عابر للحدود والثقافات والمصالح، ثمّ جاء بعدهم المتأسلمون ليدعوا إلى هوية إسلامية عابرة للأوطان تحت ستار (لا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى). الدعوتان ليستا سوى تمظهر لرغبة رومانسية ساذجة لو شئنا تغليب حُسْن النوايا؛ أما الحقيقة فهي أنّهما تستبطنان شرّاً يرادُ منه تغييب الهوية الوطنية لصالح هوية مصطنعة مطلوب منها خدمةُ مصالح مؤشّرة لدى صانعي هذه الهويات المصطنعة.
نقرأ في سيرة آينشتاين أنّه تاق لأن يكون مواطناً عالمياً من غير جنسية محدّدة. تبدو هذه الرغبة رومانسية للغاية وتتفق مع طبيعة آينشتاين؛ لكنّ الحقيقة أنّه كان يضمرُ نفوراً من نمط العسكرة الذي فرضه بسمارك على الحياة الألمانية انطلاقاً من ولاية بروسيا. ماذا حصل في نهاية الأمر؟ نال آينشتاين الجنسية الألمانية برغم كل شيء، ثمّ عندما لجأ إلى أمريكا عام 1933 حصل على الجنسية الامريكية عام 1938. وقف أمام قاضٍ أمريكي يردّدُ قسم الولاء للدستور الأمريكي. ما نريده شيء، ومتطلّباتُ العيش في دولة معاصرة شيءٌ آخر. متطلباتُ العيش في دولة معاصرة لا تصنعها الرومانسيات المتفلّتة من الضوابط.
يُنظّرُ البعضُ لمرحلة مواطن ما بعد الدولة Post-State Citizen. تخيلوا معي شكل هذا المواطن العالمي. لا شكل له على الأقل في سياق الأطر الثقافية التي نعرفها. يمكن مثلاً نشوء أتحاد ما على شاكلة الإتحاد الأوربي حيث التسهيلات الكبيرة في الإقامة والتنقل والإعفاءات من رسوم السفر والتأشيرات؛ لكن يبقى الفرنسي فرنسياً والألماني ألمانياً والإيطالي إيطالياً،،،،،إلخ. لا أحد يرغب في، أو يقبلُ التنازل عن جنسيته لصالح جنسية أوسع نطاقاً جغرافياً وقانونياً. لا توجد في الأفق القريب شواخص أو مؤشّرات على قرب بلوغنا عتبة المواطن العالمي؛ بل العكس هو الصحيح. ثمّة عودة إلى سياسات تعزيز سطوة الدولة ومكانتها ونفوذها. الأمر منوط باعتبارات عملية وليس محض نزوع رومانسي.
الكلام كثير فيما يخصُّ مفهوم الولاء للبلد كثقافة وسياسة تنفيذية؛ لكن إجمال الرأي هو: ليكن بلدك صناعة استعمارية شأنه شأن كل البلدان الحديثة المصنوعة - هذا إذا اغفلنا ثقل العراق التاريخي المشهود - ليس هذا بالأمر المهم. الجوهري في الأمر هو: ماذا صنعت لبلدك؟ لماذا لم تجعل من العراق بكلّ ثروته العظيمة واحداً من بلدان الأسود أو النمور الشرق- أوسطية إن لم يمتد بنا الخيال والتمنّي في أن يكون ياباناً أو كوريا جنوبية في الشرق الأوسط، وهو أقلّ ما يستحقه العراق لو خلصت النوايا وتطهّرت النفوس وبرأت العقول من الخرافة بكلّ أشكالها؟ كل عراقي حقيقي يجب أن يخجل حدّ تفصّد العرق من جبهته إذ يرى بلداً صغيراً مثل تايوان أو سنغافورة يحقق طفرات شاسعة في معايير التنمية البشرية والإقتصادية؛ في حين يخرج العراق من هاوية لتتلقّفه هاويةٌ ألعَنُ من سابقتها.
كيف لعراقي حقيقي أن يرتضي بجعل بلده ملحقاً صغيراً ببلد آخر على المستويين السياسي والإقتصادي؟ يفعلون هذا وهُمْ ليسوا أكثر من طفيليات تعتاشُ على خير العراق. يأكلون من خير العراق ويبصقون في (ماعونه). دع عنك الوطنية والولاء والإخلاص، أهكذا تكون المروءة والنزاهة مع من أطعمك من جوع حتى أستمرأتَ سرقته لحساب الأجانب؟ إن لم تكن هذه خيانة صريحة فكيف تكون الخيانة إذاً؟
يبدو أنّ خيانة العراق صارت ملهاة عند البعض. نعرف أفاعيلهم.سيوظّفون نهجهم التأويلي ولسانهم المدرّب على ملاعبات اللغة وليّ عنق المفاهيم خدمةً لتمرير ما يريدون من سياسات محسوبة. لكن يتوجّبُ مواجهتهم بقوة: إذا ضاع العراق لن يبقى بعده من أو ما يستحقُّ التبجيل والإحترام.
ألهذا الحدّ تكرهون العراق حتى وهو يملأ جيوبكم بالمال من خيره المنهوب؟
جميع التعليقات 1
د.علي محمد جواد الخطيب
منذ 16 ساعات
ما هذا الابداع سيتدتي الفاضله, فبقدر ما اثلجت صدورنا نحن القراء فقد تفصدت اعراقنا حقا ونحن نسأل انفسنا ماذا صنعنا للعراق الذي اوانا وسقنانا من عذب ماؤه واكلنا ومازلنا نأكل من خيراته فماذا قدمنا؟ عجبا والف عجب من يقرأ هذا المقال ولات يستحي. لمن المشتكى؟؟