نجم والــييتعمق في هذه الرسائل، يجد نفسه مرة واحدة في عوالم غريبة، سكانها يبدون كما لو أنهم سلموا أنفسهم تماماً للعمل الفكري، وثقتهم الكبيرة لقوة الفن ولغة القلوب، التي هي في أحايين كثيرة تثير الشغف بصورة مباشرة. هناك نظام منضبط بالتعبير وفي طريقة الاشتغال على العمل الأدبي، وإرادة بالتلفظ والتعبير، تجعلان حاضر الكتابة يبدو بالمقارنة مجرد رطانة.
تلك هي طريقة الكتابة عند كل أولئك الذين يفرحنا نعتهم بـ "بناة العالم"، كما نعتهم "ستيفان تسفايغ"، في كتابه الذائع الصيت الذي سحر جيلي بصورة خاصة، والذي ربما يدرك أكثر من غيره معنى قراءة عمل عظيم ينتمي للماضي، ليكتب: "الحاضر يعاني دائماً من بعد نظر غريب للعين: المرء يتعرف على كل ما هو كبير في البعيد، على عكس صورة كل ما هو قريب، التي يشعر بها مشوشة ومجهولة".والحاضر بما يخص الجزء الثالث من رسائل ستيفان تسفايغ التي نقرأها هنا، هو أعوام 1920 – 1931؛ تلك الأعوام التي استطاع فيها كاتبها تثبيت نفسه ككاتب روائي، وصاحب منمنمات تاريخية، ومؤلف سير شخصية وكاتب مسرحي: "24 ساعة في حياة امرأة" و "خوف" و "اضطراب المشاعر"، ثلاثة أعمال مهمة في حياة المؤلف نشأت بين أعمال أخرى في هذه السنوات، من ضمنها مقالاته الثلاث الرائعة عن عالم الكلاسيكيين، التي تُرجمت عندنا تحت عنوان "بناة العالم"، بالإضافة للسير التي كتبها عن حياة "جوزيف فوكه" و"ماري أنطوانيت".نحن نلتقي هنا إذن بفنان في قمة حياته الإبداعية، رجل في عقد سنواته الخمسين، يودعها في رسالة إلى أخيه ألفريد بمناسبة ميلاده الخمسين في 28 نوفمبر 1931، لا تخلو من تفاؤلية خاطئة ينهيها: "أقرأ للتو في الصحف الألمانية أشياء سافرة تقريباً. لكني أشعر إذا استدعت الحال بنفسي مستعداًً بما فيه الكفاية، لرمي كل أثاث البيت كي أبدأ مرة أخرى من جديد: كأولاد لأبينا تعلمنا منه شخصياً طريقة معينة بالعيش المتواضع. بإمكاني أن أعيش مرتاحاً في غرفتين، والقليل من السيجار، مع زيارة المقهى مرة واحدة في اليوم، أكثر من ذلك لا أحتاج شيئاً. لذلك من غير الداعي أن يقلق المرء نفسه".ربما كان يحاول في ذلك الوقت منح نفسه الشجاعة، التي سيحتاجها بصورة ملحة بعد ثلاث سنوات، عندما كان عليه أن يذهب للمنفى، إلى انكلترا، ثم ليرحل بعدها بعيداً، حتى البرازيل، لكن ليس بعيداً بما فيه الكفاية، لكي يهرب من حب العودة لأماكن طفولته والشوق لرؤية أصدقائه، والحرب. ربما ذلك هو التفسير الوحيد، أو أحد التفسيرات لسبب انتحاره مع زوجته في العام 1942، في البرازيل. إذن فقط عشر سنوات ظلت له للحياة بعد آخر رسائل هذه المجموعة – أنه بالفعل أمر يدعو للعويل! -، والتي نقرأ فيها تلك الجملة التي تفوق كل شعر: "أحيي كل أصدقائي، ليروا قدر ما يستطيعون بزوغ الفجر بعد ليل طويل! أما أنا، نافذ الصبر، أرحل سلفاً، قبلهم"، كتب في رسالته الأخيرة.ليس بإمكان المرء الادعاء بأن ذاك الشؤم لم يدمغ رسائل سنوات الحرب تلك بوقت مبكر، وأن تسفايغ ذاته حدس ذلك: "ربما أنا متشائم جداً. لكن حتى اليوم كانت توقعاتنا الأكثر سوداوية تُكتسح دائماً من الواقع" كتب في العام 1921. عام بعد ذلك قُتل صديقه "راتيناو": "لم أر بأكثر سوداوية أكثر من اليوم: الأمر الواقع، هو أن المرء ما زال يصيد المفكرين في ألمانيا، كما يفعل مع الأرانب....- أنه أمر مميز جداً!" وأكثر من ذلك بعد سنة: "أن ما يحدث في ألمانيا، يفوق كل التوقعات المحزنة. جنون على جنون!" الرسالة معنونة لرومان رولان، الكاتب الفرنسي وداعية السلام الأوروبي، الذي كان يتراسل معه تسفايغ منذ عام 1910 (غالباً باللغة الفرنسية) والذي كان بالنسبة إليه نموذجاً عالياً للأديب الإنساني: "أن فضيلته"، كتب إلى مكسيم غوركي، "أحكامه العادلة، ونزاهته هي صفات نادرة على وجه هذه الأرض المسكينة، رغم أنه يصارع الشر بجسد عليل".يلاحظ المرء بصورة جيدة الكلمات القليلة هذه وبأي فيض يغمر تسفايغ واثقاً شركاءه بالمراسلة، وبأي دأب يصر على الشيء بأسنانه. حتى أنه لا يتردد من توضيح سبب عدم رغبته كتابة أي موضوع عن غوستاف فلوبير، وأن عذره: أنه يكتب إلى حد ما جيداً هناك فقط، "حيث أكون شغوفاً بالموضوع"، وهذا يحدث تقريباً مع كل موضوع يمس شغاف قلبه، وليس لذلك علاقة باسم الكاتب ومكانته، وذلك ما نجد تأييده بصورة خاصة في أجوبته على العديد من المؤلفين الشباب، الذين أرسلوا له كتبهم. وفي تلك المراسلات نلتقي بتسفايغ المخلص لملاحظاته، تسفايغ البعيد عن كل ديبلوماسية، وكيف أنه يبذل كل ما في وسعه، لتصعيد كل ما يجده جيداً، بل أنه لا يخفي انفعالاته المباشرة.وبالذات يشعر قارئ هذا القسم من الرسائل بخفقان قلبه بصورة خاصة. أنه لأمر يثير الدهشة حقاً، كيف أن تسفايغ لا يستهين بأي كتاب، على العكس أنه يحرص في أجوبته على وضعه في حيز فكري، لكي يتفادى إثارة الانتباه بالتركيز على نقطة الضعف هذه أو تلك. وبعض الأحيان يُلبس شكوكه لبوس اعتراضات ناشر ويكتب للكاتب: "
ستيفان تسفايغ...أحد بناة العالم
نشر في: 31 يناير, 2011: 07:26 م