د.شيركو كيرمانج
ترجمة: عدوية الهلالي
في 30 تشرين الثاني 2024، شنت الجماعة الإسلامية المسلحة "هيئة تحرير الشام"، المصنفة رسميًا كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وعدة دول أخرى، هجومًا كبيرًا على حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا.. وسرعان ما تغلبت هيئة تحرير الشام، التي لها انتماءات تاريخية لتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش)، على الجيش السوري. وفي غضون أيام، استولت هيئة تحرير الشام وحلفاؤها على المدينة، بما في ذلك البنية التحتية الاستراتيجية مثل مطار حلب. في الوقت نفسه، بدأ الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا هجمات على قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد في شمال محافظة حلب، وحقق مكاسب كبيرة على الأرض. لقد غيرت هذه التطورات المشهد السياسي والعسكري في سوريا بطرق من المرجح أن لا رجعة فيها.
كان بقاء نظام الرئيس بشار الأسد خلال المرحلة الأولى من الحرب الأهلية السورية (2011-2020) متوقفًا إلى حد كبير على التدخل الحاسم لثلاثة حلفاء رئيسيين: الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله اللبناني، والقوات المسلحة السورية. القوات الجوية الروسية. وقد قدمت هذه القوات دعماً حاسماً حال دون انهيار النظام. لكن التطورات الأخيرة في سوريا تكشف عن ضعف كبير في هذا التحالف.
لقد أدت الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة في السنوات القليلة الماضية التي استهدفت منشآت الحرس الثوري الإيراني وكبار ضباطه في سوريا إلى تقويض قدرات إيران العملياتية بشدة، كما أدت الحملة الإسرائيلية المستمرة ضد حزب الله منذ تشرين الأول 2024 إلى تآكل القوة العسكرية للحزب، لا سيما من خلال الاغتيالات المستهدفة لقيادته، بما في ذلك حسن نصر الله. وكان حزب الله قد اعاد نشر مقاتليه من سوريا إلى لبنان بعد صراع غزة في تشرين الأول 2023. بينما أدى التدخل العسكري الروسي المكثف في أوكرانيا إلى الحد من قدرتها على تقديم دعم مستدام لنظام الأسد.
علاوة على ذلك، كان نظام الأسد يعاني من إرهاق داخلي حاد، يتفاقم بسبب الصراع الطويل والانهيار الاقتصادي، فضلاً عن الحظر الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة وحلفاؤها. وفي حين أن بعض السوريين يدعمون الأسد على مضض باعتباره ثقلاً موازناً للفصائل الجهادية والسلفية، فإن هذا الولاء الهش يوفر حماية محدودة ضد المزيد من زعزعة الاستقرار.
وتبرز تركيا كلاعب مركزي في الأزمة السورية التي تتكشف. ويقال إن الرئيس رجب طيب أردوغان حافظ على علاقات وثيقة مع جماعات المعارضة في سوريا، وخاصة تلك المتمركزة في إدلب وغيرها من المناطق التي تسيطر عليها تركيا إذ يبدو أن تصرفات تركيا الأخيرة تخدم أهدافًا متعددة منها احتواء الطموحات الكردية إذ تنظر تركيا إلى أي مكاسب إقليمية كردية على أنها تهديد وجودي. وقد سعت باستمرار إلى تقويض قوات سوريا الديمقراطية ومنع توطيد الحكم الذاتي الكردي في شمال سوريا. وهنالك التأثير على مستقبل سوريا أيضا من خلال دعم الجيش الوطني السوري ودعم هيئة تحرير الشام إذ تهدف تركيا إلى إعادة تشكيل التوازن السياسي والعسكري في سوريا. وكانت هذه الاستراتيجية تسعى أيضًا إلى إجبار الأسد على إعادة تأكيد سيطرته على الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية على طول الحدود التركية، وبالتالي تقليص النفوذ الكردي.
ومن تلك الاهداف إعادة التأكيد على المستوى الإقليمي إذ كان تهميش تركيا في مبادرات مثل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، واستبعادها من المفاوضات بين إسرائيل وحماس، سبباً في دفعها إلى إعادة تأكيد نفسها باعتبارها قوة إقليمية لا غنى عنها. ومن الممكن تفسير الدعم المزعوم لهيئة تحرير الشام على أنه محاولة استراتيجية لتشكيل الديناميكيات الإقليمية.
وهنالك ايضا الاعتبارات الداخلية إذ تواجه حكومة أردوغان مشاعر متزايدة معادية لسوريا في الداخل. وقد يؤدي توسيع المناطق التي تسيطر عليها تركيا في شمال سوريا إلى تسهيل إعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، ومعالجة الضغوط السياسية الداخلية قبل الانتخابات المقبلة.وتعكس تصرفات تركيا حسابات استراتيجية تسعى إلى تعظيم نفوذها على جبهات متعددة، بما في ذلك علاقتها المعقدة مع روسيا، وخصومها الأكراد، والقوى الإقليمية الأخرى.
لقد واجهت إيران وحلفاؤها، الذين ظلوا لفترة طويلة محوريين في "جبهة المقاومة"، تحديات غير مسبوقة. وأدت حرب غزة في تشرين الأول 2023 والرد العسكري الإسرائيلي إلى إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا بشدة، ويعود التحالف الاستراتيجي بين إيران وسوريا إلى الثمانينيات وكان محوريًا لطموحات إيران الجيوسياسية. وتوفر سوريا ممراً حاسماً للدعم الإيراني لحزب الله في لبنان، مما يمكن الأخير من تشكيل تهديد مباشر لإسرائيل. ومع ذلك، فإن التآكل المستمر لقدرات إيران في سوريا، إلى جانب إضعاف حزب الله، قد عرّض هذا المحور الاستراتيجي للخطر.
كان للتدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015 دور فعال في تحويل دفة الصراع لصالح الأسد. ومع ذلك، فإن مشاركتها الحالية مقيدة بانشغالها بالحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من استئناف الضربات الجوية الروسية في أعقاب هجوم هيئة تحرير الشام على حلب، فمن غير المرجح أن تكرر موسكو مستوى مشاركتها السابق.وتشمل الأولويات الاستراتيجية لروسيا في سوريا الحفاظ على قاعدتها البحرية في طرطوس، والحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط. وفي حين أن روسيا قد تضغط على تركيا دبلوماسياً للحد من التوسع الإقليمي لهيئة تحرير الشام، فإن قدرتها على فرض مثل هذه القيود غير مؤكدة.
ويجد الأكراد، الذين تمثلهم قوات سوريا الديمقراطية في المقام الأول، أنفسهم في وضع محفوف بالمخاطر. وعلى الرغم من تكبدها خسائر كبيرة، لا تزال قوات سوريا الديمقراطية تسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي في شمال شرق سوريا. ومع ذلك، فإن الديناميكيات الحالية تطرح تحديات كبيرة فقد أصبح اعتماد قوات سوريا الديمقراطية على الدعم الأمريكي هشاً على نحو متزايد، لا سيما في المناطق الواقعة غرب الفرات. ويبدو أن الولايات المتحدة مترددة في مواجهة القوات المدعومة من تركيا بشكل مباشر، مما يترك قوات سوريا الديمقراطية عرضة للخطر.كما إن احتمال التعاون مع القوى الإقليمية لمواجهة "الهلال الشيعي" الإيراني يمثل فرصاً ولكنه يمثل أيضاً مخاطر كبيرة. ومن دون التزامات ثابتة من الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج، قد تواجه "قوات سوريا الديمقراطية" صعوبة في الاستفادة من مثل هذه المبادرات.
يجب على الأكراد أن يتعاملوا مع هذه التحديات بعناية، وأن يوازنوا علاقاتهم مع الجهات الخارجية مع الحفاظ على مصالحهم الإقليمية والسياسية. ومع ذلك، هناك احتمال أن تستخدم الولايات المتحدة وإسرائيل قوات سوريا الديمقراطية ضد الجبهة الإيرانية والمقاومة المتحالفة معها لتعطيل الهلال الشيعي من خلال السيطرة على الحدود العراقية السورية، وتحديداً دير الزور-البوكمال-العراق.. وإذا تم تأمين الدعم المالي الكافي (من قبل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية) وعسكريا (من قبل الولايات المتحدة)، فإن المشاركة الكردية في هذا الصراع يمكن أن تعمل في نهاية المطاف لصالحهم.
لقد برزت إسرائيل والولايات المتحدة كمستفيدتين غير مباشرتين من الاضطرابات الحالية في سوريا. وقد استفادت إسرائيل، على وجه الخصوص، من ضعف "جبهة المقاومة" التي تقودها إيران. إن الصراع المطول بين الفصائل المتعارضة المناهضة لإسرائيل في سوريا يتماشى مع مصلحة إسرائيل الإستراتيجية في منع أي جهة فاعلة منفردة من السيطرة على المنطقة.
باختصار، تشير التطورات الأخيرة في سوريا إلى منعطف حرج في الصراع الذي طال أمده في البلاد. وقد أدى إسقاط نظام الأسد وحلفائه، إلى جانب تصرفات تركيا الحازمة، إلى إعادة تشكيل المشهد الإقليمي. ورغم أن النتائج لا تزال غير مؤكدة، فإن التداعيات المترتبة على الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية عميقة.
ومع تطور الديناميكيات، قد تصبح الجهات الفاعلة الخارجية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن متورطة بشكل متزايد، مما يزيد من تعقيد الوضع. وبالنسبة للأكراد فإن قدرتهم على التغلب على هذه التحديات ستحدد دورهم في مستقبل المنطقة.