ستار كاووش
لا يتوقف التاريخ من التلويح لنا بأيامه المتباينة، واضعاً بين أيدينا صورة الناس الذين عاشوا في أوقات وأماكن مختلفة، سواء أولئك الذين خَلَّفوا أثراً جميلاً أو تركوا فعلاً قبيحاً، شيدوا القصور أو حطموا المدن، رفعوا أيديهم نحو السماء شاكرين أو لوحوا نحو الناس بالصولجانات والبنادق. الحياة تمضي بنا وبغيرنا ولم يبق سوى هذا الأثر الذي نتركه خلفنا، والذي سيكون ربما ساحراً ومشرقاً في عيون الكثيرين أو رمادياً قاتماً في نظر غيرهم.
فكرتُ بهذه الكلمات وأنا أتوجه نحو قصر هوفبروغ في مدينة فيينا، والذي عاشت فيه الامبراطورة اليزابيث (١٨٣٧-١٨٩٨) وقد تحول الآن الى متحف (سيسي) وهو الأسم الذي تلقب به اليزابيث، حيث تُعرض فيه كل التفاصيل والمتعلقات الشخصية لها. حين دخلتُ المتحف لم أتوقع كل هذا الثراء والبهرجة وكأني أعيش الأجواء الامبراطورية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأتخيل أفراد هذه العائلة وهم يتناولون الطعام ويتحدثون في هذا المكان الواسع. تجولتُ داخل غرف خيالية ذات نقوش وتفاصيل غاية في الأناقة والتفرد، وإطلعتُ على بورتريهات ومنحوتات نصفية تناولت هذه الشخصية الفاتنة، أثاث فاخر، صور فوتغرافية، قلائد نادرة، لوحات فنية مختلفة، فساتين باهرة في غاية الأناقة، مرواح يدوية مصنوعة بعناية فائقة، مفروشات ثمينة، مرايا مختلفة الأشكال وشمعدانات بهيئة تحف فنية، فيما الستائر الفخمة إنسدلت على النوافذ، حتى الموقد وضعت قربه أكاليل الورد وغُطيت جوانبه بألوان الذهب، ووسط كل ذلك توزعت الكراسي والطاولات بطرازها الذي يعود الى عصر الباروك والركوكو.
مع ذلك، فهذا الثراء التي يشع من المكان، يُخفي خلفه الكثير من الأسرار والتفاصيل المضطربة التي تتستر خلف معالم البهجة والسطوة والغنى، حيث تزوجت سيسي وهي في السادسة عشرة من عمرها من الامبراطور فرانز يوسف، بعد أن تركت مكان نشأتها في ميونخ وجاءتْ الى هذا القصر، لتُفاجىء بالأجواء الغريبة التي لم تستطع التعود عليها، لأنها كانت تهتم بالأدب والفن، إضافة الى موهبتها الكبيرة في الفروسية، وفوق هذا كانت مهووسة بوزنها ومظهرها الخارجي وتمارس الرياضة بإنتظام حيث جهزت في القصر مكاناً خاصاً للمعدات الرياضية، وهذا كان شيئاً نادراً بالنسبة للنساء في تلك الأيام. وقد تركت سيسي خلفها ستمائة صفحة من القصائد التي كتبتها متأثرة بشاعرها الملهم هاينريش هاينة. كل هذه الأسباب وغيرها جعلتها بعيدة أو غريبة عن القصر، حيث كانت تقوم بالعديد من السفرات الى الممالك والدول الأخرى. ورغم ذلك كانت محبوبة داخل وخارج البلاط بسبب عفويتها وبساطتها.
تجولتُ بين أرجاء صالات هذا القصر، وسط ممتلكات سيسي، ودخلتُ غرفة نومها التي كانت منفصلة عن غرفة زوجها، والتي تؤكد وحدتها وغربتها في هذا المكان، حتى طاولة الكتابة التي ما زالت في مكانها تُشير الى توحدها مع عوالمها الشخصية أكثر من إنسجامها مع كل هذا الثراء. وقد أشارتْ هي الى ذلك في مذكراتها، حيث كتبتْ بعد أسبوعين من زواجها (إستيقضتُ لأجد نفسي في زنزانة).
ينظر الكثير من المؤرخين الى سيسي بإعتبارها أشهر امبراطورة في أوروبا، بسبب شخصيتها الغريبة والغامضة والمثيرة للإهتمام حتى يومنا هذا، يُضاف الى ذلك، التفاصيل التي اجتمعت حولها وساهمت في بناء أسطورتها. وقد كُتبت عنها عشرات الكتب وأُنتِجَتْ حول حياتها العديد من الافلام والمسلسلات التلفزيونة وحتى العروض الموسيقية
أكثر ما كان يميز سيسي هو مظهرها وحضورها الأخاذ والمؤثر، بشعرها الطويل والتسريحات غير المألوفة وقتها، لذا صارت الوجه الجميل للامبراطورية النمساوية. لكن مع مرور الوقت حدث تحول غريب في حياة سيسي وصارت تتحسس من شكلها الذي بدت عليه بصمات الزمن، وبدت تشعر بعدم الإرتياح غير المبرر، من مظهرها، حتى صارت تُخفي وجهها كثيراً عن الآخرين بواسطة حجاب، وغالباً ما كانت تستعمل المراوح اليدوية لإخفاء وجهها، وتنزعج إن حدَّقَ بها أحد. وحين صارت في الأربعين من عمرها منعت تصويرها بشكل كامل. وقد كتبت في مذكراتها (أقوم بإخفاء وجهي خلف المروحة، بإنتظار أن يقوم الموت بعمله بكل هدوء). وهذا ما حصل فعلاً، لكن ليس بالهدوء الذي كانت تنتظره، حيث هجم عليها أحد المناوئين وطعنها بسكين في صدرها أثناء زيارتها جنيف، وهذا الشخص كان أيطالياً تتحدد مهمته بإختيال شخصاً آخر، لكن بسبب إخفاء سيسي لوجهها، إلتبس عليه الأمر، فقام بطعنها وفارقت الحياة وهي في الستين من العمر، لتطوي صفحة من كتاب الامبراطورية النمساوية.