بغداد – تبارك عبد المجيد
يشهد العراق تحسنًا ملموسًا في معدلات الأمطار خلال السنوات الأخيرة، ما يُعتبر بارقة أمل في ظل أزمات المياه التي تعصف بالبلاد. مع ذلك، تترافق هذه النعمة الطبيعية مع تحديات كبيرة في إدارة الموارد المائية، إذ تسجل البلاد معدلات هطول استثنائية، ولكنها تُهدر نتيجة ضعف التخطيط وسوء الإدارة.
يشير الخبير في الموارد المائية، عادل المختار، إلى أن العراق يشهد تحسنًا ملموسًا في معدلات الأمطار هذا العام، حيث بدأت الهطولات المطرية مبكرًا، مما يبشر بموسم شتوي واعد. ورغم أن التوقعات تشير إلى احتمال أن تكون غزارة الأمطار أقل قليلًا مقارنة بالموسم الماضي، إلا أن المختار يعبر عن تفاؤله بأن الموسم القادم سيكون مميزًا بفضل استمرار التحسن في معدلات الأمطار للعام الثالث أو الرابع على التوالي. ويستذكر المختار الموسم الماضي الذي وصفه بالوفرة الكبيرة، حيث شهد العراق كميات هطول مطري استثنائية.
بحسب المختار، بلغ خزين المياه في العراق مع نهاية الشتاء الماضي نحو 21 مليار متر مكعب، وهو رقم يعكس بشكل واضح أثر الأمطار الغزيرة التي اجتاحت البلاد. كما يوضح أن إجمالي الإيرادات المائية، بما في ذلك الأمطار وتدفقات المياه من دول الجوار، تجاوزت 55 مليار متر مكعب، وهو ما يتفوق على المتوسط السنوي الذي كان يدور حول 40 مليار متر مكعب خلال السنوات السابقة. هذه الكميات الكبيرة من المياه، بحسب المختار، تفتح الباب أمام آمال بأن يتمكن العراق هذا العام من تحقيق قفزة نوعية في خزينه المائي، ربما يصل إلى 30 مليار متر مكعب مع نهاية الشتاء، مما يعزز التفاؤل بموسم مطري غزير.
ولكن، ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، يعرب المختار عن قلقه العميق حيال الأداء الإداري لوزارة الموارد المائية. ويشير إلى أن سوء التخطيط والإدارة حال دون الاستفادة المثلى من هذه النعمة الطبيعية. ويستشهد المختار بحوادث بيئية خطيرة، مثل نفوق الأسماك في مناطق مثل العمارة والناصرية، معتبراً إياها إنذارًا واضحًا على الفشل في إدارة ملف المياه بشكل كفء. ويعتقد أن هذا القصور يهدد بتفاقم الأزمات البيئية والمائية، حتى في ظل توفر كميات كبيرة من المياه.
ويرى المختار أن الحل يكمن في تطوير ستراتيجيات متقدمة لإدارة الموارد المائية، تتضمن تحسين كفاءة التخزين وتوزيع المياه بما يضمن توفير احتياطي مائي كبير يلبي احتياجات العراق المتزايدة. ويشدد على أن تحسين كفاءة التخزين ليس مجرد خيار، بل ضرورة حتمية لحماية الأمن المائي والزراعي في البلاد، ولتجنب أزمة مستقبلية قد تكون أكثر حدة.
يدعو أحمد محي، المختص في مجال الموارد المائية، إلى اتخاذ خطوات جادة لتعزيز البنية التحتية لتخزين المياه في العراق، مستندًا إلى الإمكانيات الطبيعية الكبيرة التي تتمتع بها البلاد. يرى محي أن العراق يمتلك مقومات تؤهله لبناء سدود وخزانات جديدة، بما يمكنه من استثمار مياه الأمطار والسيول بشكل أكثر فعالية. ويشير إلى أن إنشاء سدود صغيرة ومتوسطة الحجم في المحافظات المختلفة لا يقتصر فقط على الحد من الفيضانات، بل يضمن أيضًا توفير المياه اللازمة خلال فترات الجفاف، التي تشكل تحديًا متزايدًا مع التغيرات المناخية.
في حديثه مع (المدى)، أشار محي إلى أهمية أنظمة الحصاد المائي كجزء من الحلول المستدامة. وبيّن أن المياه التي تتجمع على أسطح المباني يمكن الاستفادة منها عبر تخزينها في خزانات خاصة واستخدامها في الري وتلبية الاحتياجات اليومية، خاصة في المناطق الزراعية التي تعتمد بشكل كبير على الأمطار. ويضيف أن تطبيق تقنيات الري الحديثة، مثل الري بالتنقيط والري الذكي، يمثل ركيزة أساسية في استراتيجية تحسين استغلال الموارد المائية، مشددًا على ضرورة الحد من الهدر، خصوصًا في القطاع الزراعي الذي يستهلك النسبة الأكبر من المياه في العراق.
كما لفت محي إلى الدور الحيوي للمسطحات الرطبة والأهوار، موضحًا أنها تعمل كخزانات طبيعية تستوعب مياه الأمطار، وتسهم في استقرار المناخ المحلي. وأكد أن إعادة تأهيل هذه المناطق سيعزز من قدرتها على مواجهة مخاطر الفيضانات التي تهدد بعض المناطق خلال ذروة الهطولات المطرية.
شدد محي على أهمية نشر الوعي بين المواطنين حول الاستفادة المثلى من مياه الأمطار، مشيرًا إلى أن النجاح في معالجة أزمة شح المياه يتطلب تعاونًا مشتركًا بين الجهات الحكومية والمجتمع المحلي. وأكد أن الاستثمار في الحلول المستدامة ليس مجرد خيار، بل ضرورة لضمان مستقبل آمن مائيًا للعراق.
تحدث شاكر فايز، مدير الموارد المائية في محافظة النجف، عن أهمية الأمطار الحالية كفرصة ذهبية لدعم الزراعة الشتوية، وخاصة زراعة الحنطة التي تعتمد بشكل كبير على توفر المياه. وأوضح في حديثه لـ طريق الشعب أن كميات الأمطار التي شهدتها المحافظة تمثل موردًا هامًا يمكن استثماره بطرق متعددة، مثل تخزينها في الخزانات أو توجيهها نحو نهر الفرات، لتوفير احتياطي مائي يُستخدم في تعويض النقص المحتمل خلال المواسم الجافة القادمة.
وأشار فايز إلى أن وزارة الموارد المائية وضعت خططًا دقيقة لترشيد استخدام المياه المخزنة، حيث يتم تنظيم إطلاقات المياه لتتناسب مع معدلات الأمطار التي تسقط في المناطق الوسطى والجنوبية. كما أوضح أن الأمطار الغزيرة في المناطق الشمالية يمكن أن تكون نعمة لتعزيز المخزون المائي، لكنها قد تتحول إلى خطر إذا تجاوزت المعدلات الطبيعية، ما يزيد من احتمالية حدوث فيضانات. في هذا السياق، أكد فايز أن الوزارة تبنت إجراءات احترازية، منها تقوية السدود وصيانة منشآت الري، إلى جانب توجيه المياه بعيدًا عن المناطق السكنية المعرضة للخطر. كما شدد على جاهزية الوزارة للتعامل مع أي طارئ لضمان حماية المدن والمناطق الزراعية من تأثيرات الأمطار الغزيرة.
من جهة أخرى، يرى فايز أن الأمطار الحالية ستكون لها آثار إيجابية طويلة المدى، حيث ستساهم في تحسين المخزون المائي وتوفير المياه اللازمة للمواسم الزراعية القادمة، مما يعزز استقرار الموارد المائية في محافظة النجف والمناطق المجاورة.
في سياق متصل، عبّر الخبير في مجال المياه، الدكتور معاذ شغال، عن ملاحظاته بشأن تأخر موسم الأمطار هذا العام، مشيرًا إلى أن الأمطار الخفيفة، التي تُعرف محليًا بـ"البَلّة"، والتي عادة ما تبدأ في منتصف شهر تشرين الأول، جاءت هذا العام متأخرة وبكميات أقل من المتوقع. وأوضح أن معدلات الأمطار المبكرة التي تتراوح عادةً حول 75 ملم لم تتجاوز هذا العام بضعة مليمترات فقط، ما يعكس تراجعًا واضحًا في الكميات.
وأضاف شغال لـ(المدى)، أن الأنظمة الجوية المؤثرة على العراق تشمل نظامين رئيسيين: الأول هو منخفض البحر الأحمر، الذي يغطي غالبًا المناطق الوسطى والجنوبية، والثاني هو منخفض البحر المتوسط، الذي يجلب الأمطار إلى بلاد الشام ويمتد أحيانًا ليصل إلى شمال العراق. وأشار إلى أن الظاهرة اللافتة خلال العامين الماضيين كانت هيمنة تأثير البحر الأحمر على النظام الجوي، مما أدى إلى تراجع تأثير منخفض البحر المتوسط، وبالتالي إلى نقص الأمطار في شمالي العراق.
وعبر شغال عن دهشته من السلوك الجوي غير المعتاد هذا الموسم، حيث لم تصل موجات الأمطار التي أثرت على فلسطين والأردن إلى الموصل كما كان متوقعًا. وأكد أن هذه التغيرات تجعل من الصعب التنبؤ الدقيق بالظروف الجوية، مما يستدعي استعدادات إضافية للتعامل مع تقلبات الطقس وتأثيرها على الموارد المائية في العراق.
بين الوفرة وسوء الإدارة.. كيف يمكن للعراق استثمار إمكانياته الطبيعية لمواجهة شح المياه؟
نشر في: 17 ديسمبر, 2024: 12:13 ص