قيس قاسم
خلافاً لتقليد مهنيّ، يتمثّل في الكتابة عن راحلين وراحلات، يسعى "العربي الجديد" إلى كتابة نقديّة لأناسٍ يحضرون في المشهد العام بأعمالٍ ومسالك تُثير تساؤلات ونقاشات، وأحياناً تؤدّي إلى حملاتٍ تتضمن، ولو قليلاً، شتائم وسخرية.
بعد أسابيع قليلة على إعلان اعتزاله نهائياً الفنّ كلّه، للتفرّغ لعائلته وأحفاده، يبدو أن المصري عادل إمام، أياً يكن سبب قراره هذا، غير عائدٍ إلى التمثيل، أقلّه في وقتٍ قريب. لذا، وانسجاماً مع رغبةٍ في تكريم أناسٍ فاعلين في المشهد السينمائي، تنشر "العربي الجديد" ملفاً يتناول جوانب مختلفة من السيرتين الحياتية والمهنية لـ"الزعيم"، مع تركيزٍ على اشتغاله متنوّع الأشكال والأساليب والمستويات، كتحية لأحد أكثر الممثلين المصريين والعرب إثارة لجدلٍ، يتناقض مضمونه بين داعمٍ له إلى حدود "التقديس" أحياناً، الذي يمنع أي "مَسّ" به، ومهاجمٍ يُسخِّف كلّ نقاشٍ مطلوبٍ، محوّلاً إياه إلى شتائم وسخرية.
ملفٌ يتحرّر من تناقضٍ كهذا، ويحتمل شيئاً من الذاتيّ في "العلاقة الشخصية" بأعمالٍ مختلفة له.
رغم هذا، يبقى النتاج التمثيلي لعادل إمام قابلاً لمزيدٍ من نقاشٍ نقدي، تماماً كقابلية مواقف له، في السياسة والاجتماع والأمن والحراك الشعبيّ، للنقاش أيضاً. فالملف خطوة مطلوبة في لحظة اعتزاله التمثيل، أياً يكن سبب قراره هذا (مرض، شيخوخة، نفور من تردّي أحوال الفن والمجتمع والعالم، رغبة حقيقية في التفرّغ لعائلته وأحفاده، إلخ.). خطوةٌ تبغي تفكيكاً نقدياً لنتاجه التمثيلي، مع شيءٍ من انفعال وحساسية ذاتيّين للزملاء والزميلات، كاتبي مقالات الملف هذا.
عجالة الكتابة عن أيّ فنان يعتزل الفن، أو يرحل عن عالمنا، تظلّ دائماً مُقلقة للكاتب. بسببها، يلازمه شعور بالتقصير. يُخفّف من ثقله، عادة، وعدٌ منه بتعويضه في أيامٍ مقبلة، بمادة أوسع بحثاً، وأشمل تحليلاً، تتناسب مع الأثر الذي تركه ذاك الفنان. الأمر نفسه يتكرّر مع الممثل عادل إمام.
اعتزاله يُصعّب مهمة الكتابة عنه أكثر، لغزارة إنتاجه، وللتفاعل الحاصل بينه وبين جمهوره العربي. كلمة "تفاعل"، المُقابلة لمفهوم أنطونيو غرامشي لـ"المثقّف العضوي"، من بين أكثر المفردات ـ المصطلحات تحفيزاً على إعادة التفكير في المعنى الحقيقي لمنجز إمام الممثل، وقبل كلّ شيء الممثل السينمائي. في المختبر النقدي، الصفات لا تقاس مادياً. كلّ صفة تُلصق بالمبدع يمكن تقييمها، قبولاً أو رفضاً، وفق مستوى القراءة النقدية لها. هذا يجيز مراجعة منجز إمام الممثل السينمائي ومستواه، رغم كثرة أدوار البطولة، التي كرّسته نجماً سينمائياً، مُتسيِّداً المشهد السينمائي المصري لعقودٍ.
مواصفات تمثيلية
ميزة عادل إمام أنّه يعرف إمكانياته التمثيلية جيداً. يعرف، أكثر من غيره، ما يناسب قدراته التعبيرية. التعبير عن أحاسيس وانفعالات شخصيّةٍ يؤدّيها "خارجيّ" (التعبير) غالباً، لا يذهب إلى العمق إلّا نادراً، لكنّه ليس مُسطّحاً بالكامل. وجد في الكوميديا ما يناسب قدراته، ويُبعد عنه الحاجة إلى تعلّم تقنيات (تكنيك) الأداء الدرامي العميق، المشترط موهبة خاصة، وتدريباً طويلاً، ودراسة أكاديمية لم تتوفّر عنده. ولأنّه ممثل موهوب، عوّض ذلك النقص بالجمع بين الحركة الجسدية وتعابير الوجه، السطحية الحادّة: جحوظ العينين، تحريك عضلات الوجه، المعبّرة عن استغراب وتعجب دائمين، مقرونٌ بكلام (حوار) متخم بتعابير شعبية مضحكة، وإيماءات جنسية تتوافق مع ذكورية سائدة.
هذا كلّه يتكرّر في أفلامٍ عدّة، رغم اختلاف الأدوار والشخصيات. حتّى عندما يحاول الخروج من نمطيتها، يواجه صعوبة في تجاوزها. صعوبة تتجلّى في "زهايمر" (2010) لعمرو عرفة مثلاً. فبعد أكثر من نصف قرن من التمثيل، بدا أداؤه دور أب مُصاب بمرض ألزهايمر باهتاً. في المقابل، ربما كان دوره في "عمارة يعقوبيان" (2006) لمروان حامد استثناءً في قوّة تعبيره الدرامي عن جوانيات الشخصية (زكي الدسوقي). عمق تعبيراتها الدرامية متأتٍ، أساساً، من تعدّد طبقات النصّ، المقتبس من رواية بالعنوان نفسه (2002) لعلاء الأسواني، ومن تعدّد شخصياته ـ أبطاله، الذين سلبوا منه البطولة المطلقة، المعتاد عليها في أكثر أفلامه.
المواصفات التمثيلية، الجامعة بين الكوميديا والحركة، والمولِّدة ديناميكية سردية جاذبة للجمهور، انتظرها مخرجو مرحلةٍ شاهدة على بدء اتّضاح ظهوره في السينما، ومعه، اتّضحت كاريزما ممثل يتعاطف الجمهور الواسع معه، لشدّة تماهي الشخصيات التي يؤدّيها مع واقعهم الحقيقي، بأبعاده ومقارباته السياسية وتناقضاته الاجتماعية والطبقية. في غالبية أفلامه، يرون أنفسهم، ويتمنّون أن يحصلوا على صديقات جميلات كما يحصل هو عليهن بسهولة، وفي دواخلهم يريد كلّ واحد منهم أنْ يكون مثله شجاعاً، يواجه رغم فقره سلطةً غاشمة، ويتحمّل أعباء موقفه السلبي منها.
أضفى عادل إمام، بأدواره المتضمنة موقفاً سياسياً نقدياً من السلطة بتمظهراتها المختلفة، حيوية على المشهد السينمائي المصري. تجسّد هذا الحضور، باكراً، في أفلامٍ كثيرة، من أبرزها "الغول" (1983) لسمير سيف، سيناريو وحيد حامد، الذي سيطيل ويوسّع مساحة التعاون معه، ليشكّلا ثنائياً (إمام ـ حامد) يقدّم أفلاماً مهمة، تتضمّن معالجاتها موقفاً نقدياً من السلطة والمنتفعين منها، كـ"اللعب مع الكبار" (1991) لشريف عرفه، الذي يفتح باباً للشروع منه إلى معالجات أكثر جرأة، تكاد تتجاوز خطوط الممنوع من التناول، كـ"الإرهاب والكباب" (1992) و"طيور الظلام" (1995)، والفيلمان لعرفه أيضاً.
يُلاحَظ أنّ الحاجة إلى استمرار التعاون المثمر بينهما، في تسعينيات القرن الـ20 تحديداً، جعلت السيناريست ميّالاً إلى تفصيل كتاباته على مقاس الممثل تماماً. كما دفع مخرجين إلى تكييف اشتغالاتهم السينمائية بما يتوافق مع مواصفاته الجاهزة، كممثل يؤدّي أدواراً شعبية يحبّها الجمهور المصري والعربي، والإقبال عليها يضمن لهم نجاحاً دعائياً، ولمنتجي أفلامه ضماناً لتهافت جماهيري كبير على "شبّاك التذاكر". ربما يفسّر هذا جانباً من أسباب غزارة إنتاجه.
لكنْ، في ما يتعلق بالجانب السياسي الجريء لمضامين أفلامه، هناك سؤال عالق عن موقف السلطات منه: لماذا تسمح له بالعمل والتعبير بحرية عن آرائه (عبر أدواره)، بينما تمنعهما عن آخرين؟
خليطٌ من تناقضات جمّة
في حوارات صحافية معه، أُجريت في مراحل مختلفة من حياته، يقول إنّه، في شبابه، كان يسارياً شيوعياً، لكنّه ترك كلّ هذا سريعاً، وتفرّغ للتمثيل، مُكرّساً حياته للفن، الذي وجد فيه مجالاً حيوياً يوصل به أفكاره ومواقفه إلى الناس. معاينة مسار منجزه، السينمائي خاصة، يُشير إلى انحياز فكري تقدّمي، يتعارض مع يمينية السلطات وفسادها، ويقف ضدّ رجعيات دينية متشدّدة. لعلّ السلطات أرادت، بمكرها المعروف، استغلال منجزه، للإيحاء بديمقراطيّتها وتسامحها مع الأفكار المعارضة لها.
ربما هذا صحيح في الـ"حالة" الخاصة لإمام، لكونه فناناً مؤثّراً، يحظى بشعبية كبيرة، لا مصلحة للسلطة في التحرّش بها. لكنْ، في المقابل، الصحيح أيضاً أنّ عادل إمام كرّس، بمنجزه السينمائي، خطاباً منحازاً إلى الفقراء، ومُنتقداً الفساد بأشكاله كلّها، ومُعارضاً التطرّف، وفاضحاً نفاقاً اجتماعياً. في الوقت نفسه، لا يخلو من ميول متوافقة مع ذكورية سائدة، تُكرّس تخلّفاً، بقبولها فكرة امتهان المرأة، والتقليل من شأنها. يتجسّد هذا الميل في معاملتها، درامياً، كـ"موضوع"، لا حراجة في جعله مصدراً للسخرية. يقبل بانتهاكها لفظياً، وبتقديمها في مشاهد تُقلّل من قيمتها ككائن.
لا تخفي النهايات السعيدة، التي تجمع البطل ببطلته، من محو ما تكرّس من أفكار ضدها، في زمن العمل السينمائي الواحد. مساره المهنيّ يشير إلى تقارب بين الخطين، السياسي التقدمي والشعبوي الذكوري، وإلى تشابكهما في أفلامٍ كثيرة له. ربما من هنا جاءت بعض أسباب شعبيته، المتوافقة مع ذكورية مكبوتة جنسياً، تجد في خطاب بطلها تنفيساً، يُعوّض حرمانها العاطفي. في المقابل، هناك ثباته على موقفه النقدي من السلطة، بغضّ النظر عما تهدف من وراء إبقائه حاضراً في المشهد الفني والسينمائي من دون مضايقات كبيرة، لمعرفتها بخطورة وأهمية الحقل الإبداعي الذي يشتغل فيه، وتقديرها الدقيق لسعة انتشاره، وقوّة تأثيره.
بهذا المعنى، عادل إمام الفنان والممثل أهمّ من السلطات، وأبقى في ذاكرة الناس. لا أحد ينكر مقدار التفاعل الحاصل بينه وبين جمهوره في أكثر من 5 عقود. أما السؤال عن مقداره وحجم تأثيره على الطرفين، فمتروك للبحث والدراسة النقدية الجادّة، لن يكون إعلانه الاعتزال عن الفن سبباً في تعطيلها.
الزعيم في اعتزاله.. معنى أنْ تكون ممثلاً تفاعلياً
نشر في: 19 ديسمبر, 2024: 12:03 ص