ستار كاووش
لم أتوقع بأني سأحب أعمال الفنان والمعماري النمساوي هاندرتفاسر (1928 - 2000) وأتعلق بأنجازاته الفريدة الى هذه الدرجة. فرغمَ أني كنتُ قد شاهدتُ له أعمالاً متفرقة هنا وهناك، لكن حين حصلتُ في إحدى المناسبات البعيدة على كتاب جميل ضمَّ أعماله، تعرفت جيداً على أفكاره وانجازاته التي ليس لها مثيل، وجذبتني عوالمه الغرائبية وأفكاره المتفردة التي تُعلّي من روح الإنسان والطبيعة. حيث مضى هذا الفنان بثبات قلَّ نظيره لتحقيق فلسفته ورؤيته خارج كل ما هو مألوف ورتيب وتقليدي.
وها أنا أتجول بين أحياء مدينة فيينا التي ولد فيها هذا العبقري وملأها بالبنايات الإستثنائية واللوحات المبتكرة التي ضمها متحف فريد من نوعه. أمضي في شوارع المدينة باحثاً عن العوالم السحرية التي إبتكرتها مخيلة هذا العبقري الذي يتسابق الناس من كل العالم للوقوف أمام أعماله التي غيرت شكل الرسم والعمارة. أنا الآن في طريقي الى متحفه، لكن هذا الطريق الذي يتشعب داخل المدينة الجميلة سيصبح طويلاً، لأني سأرغم على التوقف هنا وهناك أمام بناياته المبتكرة التي توزعت مثل اللقى الأثرية التي تلتمع بين شوارع مدينة الجمال فيينا. أمضي في الطريق، فيما بنايات هاندرتفاسر الغامضة تتقاطر أمامي واحدة بعد الأخرى مثل قلائد ملونة، فأتوقفُ في أحد المنعطفات حيث تتجمهر مجموعة من الناس الذي جاءوا لمشاهدة الجنون الذي صنعه هذا الفنان في العمارة، وجرأته في تغيير مفهوم البيوت والبنايات بأشكالها غير المنتظمة وخطوطها المنحنية ونوافذها التي تنبثق منها أغصان النباتات وسطوحها التي تحولت الى حدائق، وهكذا جعلَ هاندرتفاسر هذه البنايات أكثر حميمية وتوائماً مع الطبيعة.
سعى هندرتفاسر دائماً لجعل عمارته تنسجم مع الطبيعة والمحيط وروح الانسان، حيث يكون الفضاء والشارع في متناول اليد، وإلا سيتحول الانسان الى سجين في علبة مغلقة، وقد رفضَ بشكل كامل كل ماهو تقليدي وعقلاني في البناء، داعياً الى مبانٍ تكون صديقة للانسان والبيئة. ومن خلال البيان الذي كتبه سنة 1973 قال (نافذتك هي حقك، وشجرتك هي واجبك)، ورأى أن غرس الاشجار في المدن يُعتبر واجباً مقدساً، حيث ذكر في أحد بياناته (كل مرة نسير فيها وسط الطبيعة علينا أن نشعر بأننا ضيوف هنا، لذا وجبَ علينا أن نكون ضيوفاً جيدي الأخلاق والسمعة ونرد الجميل). وهكذا كان هاندرتفاسر لا يتوقف من نشر البيانات وإلقاء المحاضرات وتصميم الكثير من الملصقات، التي تُعلن كلها عن مطالبته بضرورة الانسجام مع الطبيعة ومراعاتها، وبما في ذلك وقوفه ضد قوانين الطاقة الذرية ومناشدته للاعتناء بالمحيطات والاهتمام بالغابات.
تتميز بنايات هاندرتفاسر بأشكالها الحلزونية وفتحاتها الغريبة واستخدامه للموزائيك والزجاج الملون، الشرائط الملونة، الأبواب والنوافذ غير المنتظمة، الأحجار الغريبة، الأبراج الغامضة، الدوائر، الأعمدة غير المتشابهة حتى في البناية الواحدة، إضافة الى مواد أخرى تبدو لأول وهلة دخيلة وغير تقليدية، لكنه يضعها في أماكن مذهلة من البناء. ولم يكتفِ بذلك، بل عمد الى جعل سطوح البنايات حدائق عامرة بالنباتات المختلفة. وهو في كل بناياته لم يستخدم خطاً مستقيماً تقريباً، فهو مجنون بالخطوط المتعرجة المنحنية، وحتى أرضيات بناياته غير مستوية، والتي يقول عنها (الأرضية المتموجة، تمنح الأقدام موسيقى ونغمات).
وقد انتشرت بناياته الفريدة في أغلب دول العالم، وهو لا يتوانى من تنفيذ فلسفته الشخصية في كل ما تنجزه مخيلته ويداه، فسواء كانت بناياته متاحف للفنون، روضات أطفال، محطات تدفئة، مصانع للنبيذ، أو حتى مطاعماً أو منازل، فهو يضع فيها كل فلسفته ورؤيته التي تنسجم مع الطبيعة.
ولم يكتفِ هذا الفنان العظيم بتصميماته المعمارية المبتكرة، بل كان يشارك في بنائها بنفسه مع العمال، حيث يمزج الأسمنت ويهيء مواد البناء، يتأرجح على هذه السقالة ويصعد على ذاك السلَّم. وكم كانت سعادته كبيرة حين يحضر له أحد الشغيلة قطعة غريبة من الحجر أو الزجاج عثر عليها بمكان ما، فيأخذها منه كإنها كنز صغير ثم يجد لها مكاناً في واجهة هذا البناء أو ذاك الجدار، لتصبح جزء من تاريخ الجمال الذي صنعه هذا الرجل.
مررتُ ببنايته الفريدة ولامستُ بيدي الجدران الملونة والعجيبة التي إلتمعت بين أحجارها قطع الزجاج الملون، وتأملتُ الأعمدة الطريفة الساحرة التي تحول كل واحد منها الى عمل فني مبهر، حتى دخلتُ الى مجمع كبير ومتداخل من البنايات، يـُطلقُ عليه إسم (قرية هاندرتفاسر) حيث وضع فيها كل تقنياته ورؤيته ولمساته التي توزعت في كل المكان. وبعد جولة صغيرة في هذه القرية تضمنها فنجان قهوة في مقهى صغيرة ومفتوحة، ذات أرضية متعرجة، أكملت طريقي حتى وصلت الى ضفة نهر الدانوب، الذي إنتصبتْ على ضفته بوابات غرائبية أنجزها هاندرتفاسر بأحجار ومواد مختلفة، ولم يتبقَ لي سوى بضع خطوات لأصل الى متحفه الذي إلتمعَتْ واجهته الملونة من بعيد. وأنا الآن على وشك الدخول لمشاهدة لوحاته التي سأتحدث عنها الأسبوع القادم.