مضى إلى غير رجعة ذاك الزمان الذي كان فيه المسؤول -- الخليفة، او الوالي او المحتسب -- يتنكر، مرتديا الأسمال البالية، ومعتمرا خرقة رثة ‘ يتجول في الحواري والأزقة، يزور الأسواق، يدقق في الأسعار السائدة، يصيخ السمع للهمس العالي، يتحرى، ويتلمس أحوال الناس، يصغي لاستغاثة مظلوم، يسعى لردع ظالم، يسارع لإصلاح الخلل والخطأ عاجلا غير آجل.
لم يعد مسؤول هذي الأيام مضطرا للتخفي ولبس الأسمال والتجول بالأسواق والحواري، بعدما تكفلت الصحف ووسائل الإعلام بفضح التجاوزات وكشف المستور وتقديم الطبق جاهزا على مائدة من يعنيه الأمر. أس مشاكل اليوم أن لا أحد -- من المسؤولين يعبأ بما يكتب أو ينشر، سيما عن سرطان الفساد الذي استشرى، ولم يعد يخفف من وطأ ته غير الاستئصال.
قطع دابر الفساد تماما، أمر مستحيل التحقيق، بذرة الفساد بذرة شيطانية صالحة للنمو في كل تربة،في كل موسم، تحت أي سماء وفي ظل أي طقس، لا منجى من شرور الفساد، إلا سطوة وصرامة القوانين الرادعة، وضمانة تطبيقها على الجميع دون استثناء، يستوي أمام جبروتها العالم والجاهل، والوزير والخفير... لا عاصم من الفساد إلا نزاهة الحكام وإدراكهم لجلالة المسؤولية التي تنوء تحت وطأة حملها الجبال. للفساد ألف وجه، وألف ألف صيغة.من يكشف عن وجه الفساد في المؤسسات الخدمية؟ أين يكمن الفساد في وزارة التربية والتعليم؟ وأينها من سوء المآل في المدارس الثلاثية الدوام وانحطاط مستوى تعليم الطلبة؟أين وزارة الصحة من تردي مستوى التطبيب والتمريض في المستشفيات التي كانت الرائدة في المنطقة؟ أين وزارة الشؤون الاجتماعية من ظاهرة التسول وبيوت التنك؟ أين رقابة الحكومة من ظاهرة استفحال الرشوة التي صارت قاعدة بعدما كانت استثناء؟ أين، وأين، وأين؟؟ العراقي اليوم يعيش في غابة تعج بالضواري والثعالب والقرود وبنات آوى،ولا موضع فيه للبسطاء حسني النية،لا مكان فيه للحمائم الوادعة ولا أمل للحملان المهددة بالنحر إثر كل مشكلة سياسية وتوزيع مسؤولية نحرها كما توزع لحوم الأضاحي في الأعياد.