متابعة/ المدى
يشهد المسيحيون في العراق اليوم قصة مؤلمة من النزوح والغياب القسري منذ العام 2003، ومع تصاعد العنف الطائفي والهجمات الإرهابية، وجد المسيحيون أنفسهم هدفاً للتهديد والاضطهاد، بدءاً من التفجيرات التي طالت كنائسهم، وصولًا إلى عمليات الاختطاف والاستيلاء على ممتلكاتهم.
عراقيون اعتبروا أن هذه الهجمات لم تكن مجرد اعتداءات عابرة، بل تركت أثراً عميقاً دفع آلاف العائلات المسيحية إلى الهجرة، تاركين خلفهم منازلهم ومجتمعاتهم التي كانت شاهدة على وجودهم منذ قرون.
ومع التحديات الأمنية والاجتماعية التي تعيق عودتهم، يشعر المسيحيون العراقيون اليوم بأنهم يخسرون ليس فقط أوطانهم، بل جزءاً من هويتهم التاريخية.
في 25 كانون الأول من كل عام يحتفل المسيحيون حول العالم بعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، حيث يعود تاريخ الاحتفال إلى القرن الرابع الميلادي، عندما تم اختيار هذا التاريخ للاحتفال بذكرى ميلاد رسول الديانة النصرانية.
مناسبة عيد ميلاد السيد المسيح، دفع فريق منصة "الجبال"، إلى كتابة تقرير مفصل عن أوضاع المسيحيين في العراق اليوم، وسألت بعضهم هل يمكنهم العودة إلى بلادهم بعد سنوات من الهجرة.
"تحديات ومشكلات المسيحيين في العراق"
"من أبرز التحديات التي نواجهها كمسيحيين في العراق هي الهجرة الجماعية التي باتت تستنزف وجودنا السكاني بشكل مقلق على مدى العقود الأخيرة"، هذا ما قاله، توني توما، وهو مواطن عراقي من الديانة المسيحية.
ويضيف توما، أن "في كل أزمة أمنية أو سياسية، غادرت آلاف العائلات المسيحية البلاد بحثًا عن حياة أكثر استقراراً"، مبيناً أن "هذا النزيف المستمر لا يقتصر على تقليل الأعداد في العراق، بل يضعف تأثيرها في المشهد الاجتماعي والسياسي العراقي".
وبدأت معاناة المسيحيين في العراق منذ (تشرين الأول 2010)، حيث احتجز مسلحو تنظيم "القاعدة" عشرات المسيحيين رهائن داخل كنيسة "سيدة النجاة" وسط بغداد، قبل إطلاق الرصاص عليهم، ما أسفر عن مقتل 60 شخصاً وإصابة عشرات آخرين، في واحدة من أعنف الهجمات التي طالت أتباع الديانة بالعراق.
بينما تقول هيا ئمنويل، وهي عراقية كانت تسكن مدينة الموصل، إنه "رغم التحسن النسبي في الوضع الأمني، إلا أن آثار الماضي ما زالت تُلقي بظلالها على المسيحيين عموماً، الذين تعرضوا خلال السنوات السابقة لتهديدات مباشرة من الجماعات الإرهابية مثل داعش، التي استهدفت المجتمع واستولت على الممتلكات، الأمر الذي أجبرهم على النزوح من المناطق التاريخية في الموصل وسهل نينوى".
"للأسف"، والكلام لئمنويل، "العديد منا لم يتمكن من العودة حتى الآن بسبب الدمار الكبير الذي طال البنية التحتية والمنازل، فضلًا عن الأعباء النفسية التي خلّفتها تلك التجارب، إلى جانب ذلك، نواجه تحديات كبيرة في استعادة ممتلكاتنا التي تم الاستيلاء عليها بطرق غير قانونية، سواء من قبل جماعات مسلحة أو أفراد استغلوا ضعف القانون في تلك الفترة".
وشهد العام 2023 أحداث كان لها آثار كبيرة على مشاعر المسيحيين، أبرزها الصراع بين الحكومة ولويس ساكو، بينما الحدث الآخر كان في نهاية أيلول 2023، إذ شب حريق هائل في قاعة الهيثم للمناسبات والأعراس في قضاء الحمدانية في محافظة نينوى، أودى بحياة ما لا يقل عن 130 شخصاً من الأطفال والنساء والرجال من الديانة المسيحية.
"لا رجوع إلى العراق بعد الآن"
وفي العام الماضي، كشف الكاردينال لويس ساكو، في بيان رسمي عن تراجع نسبة المسيحيين في العراق من 4% إلى نحو 1%، مشيراً إلى مقتل 1200 مسيحي خلال 15 سنة إثر أعمال العنف.
ويتحدث عماد زيا، وهو عراقي يسكن في تركيا، عن أن "المسيحيين في العراق يعانون من مشكلات تتعلق بالمساواة وممارسة حقوقهم كمواطنين".
وأشار زيا إلى أن "هناك شعوراً بالتهميش أحياناً، خاصة في ما يتعلق بالوصول إلى الوظائف الحكومية أو المشاركة السياسية، ورغم أن الدستور العراقي يكفل حقوق الأقليات، إلا أن التنفيذ على أرض الواقع لا يزال يواجه عوائق كبيرة".
"كما أن إعادة بناء مناطقنا التاريخية، مثل الكنائس والمنازل التي دُمرت خلال الحرب، تُعد تحدياً خصوصاً ونحن بحاجة إلى موارد مخصصة لإعادة الإعمار كي نتمكن من العودة واستئناف حياتنا الطبيعية، في ظل مجتمع يحترم حقوقنا ويعزز دورنا في بناء العراق"، حسب ما يراه زيا.
وبحسب تقرير سابق لمفوضية حقوق الإنسان في العراقي صدر في (آذار 2021)، هناك نحو 250 ألف مسيحي فقط موجودين في جميع أنحاء العراق من أصل 1.5 مليون كانوا متواجدين قبل 2003.
نفس التقرير، كشف أيضاً عن قتل 1315 مسيحياً بين عامي 2003-2014، بالإضافة إلى نزوح 130 ألفا واختطاف 161 آخرين خلال فترة سيطرة "داعش" على مدينة الموصل بين عامي 2014-2017.
لمحة تاريخية لوجود المسيحيين في العراق
المسيحية هي من أقدم الديانات في العراق والمنطقة، إذ دخلت في القرن الأول الميلادي على يد الرسول "توما" ورفاقه، وازدهرت في مدن مثل الحيرة وأربيل، حيث تأسست كنيسة المشرق، التي أصبحت مركزاً رئيسياً لنشر المسيحية إلى بلاد فارس والهند والصين، وهذا الكلام وفقاً لاستاذ علوم التاريخ في الجامعة المستنصرية علي البصير، الذي أكد أن المسيحيين عانوا في ظل الإمبراطورية الساسانية من الاضطهاد بسبب الصراع مع الإمبراطورية الرومانية، لكنهم استمروا في ممارسة شعائرهم كما تعرضوا لأضرار كبيرة خلال الغزو المغولي في القرن الثالث عشر، إذ دُمّرت الكنائس والأديرة، لكنهم استمروا في العيش في مناطق شمال العراق.
وتعيش في العراق 14 طائفة مسيحية معترف بها رسمياً، غالبيتها في بغداد ومحافظة نينوى وشمال وإقليم كوردستان، فيما تعتبر الطوائف (الكلدان، السريان، الآشور، الأرمن) الأكثر انتشاراً في البلاد.
وأضاف البصير، أن "الطوائف المسيحية تعرضت في العقود الأخيرة لتحديات كبيرة، أبرزها الحروب والنزاعات الطائفية والإرهاب، مما دفع العديد منهم إلى الهجرة خارج البلاد رغم ذلك، لا تزال بعض الطوائف المسيحية تحتفظ بمواقعها التاريخية وتراثها الثقافي، مثل الأديرة والكنائس التي تشهد على عراقة المسيحية في هذه الأرض".
وتشير التقديرات إلى وجود ثلاث كنائس يونانية أرثوذكسية وأربع كنائس أرثوذكسية قبطية في العاصمة بغداد و57 كنيسة للروم الكاثوليك في عموم أنحاء البلاد، فضلًا عن عدد صغير من البروتستانت.
"تراجع ملحوظ في أعداد الديانة المسيحية"
ويتابع الأكاديمي حديثه قائلاً إن "أعداد المسيحيين شهدت تغيرات كبيرة عبر التاريخ، ففي العصور الأولى كانوا يشكلون نسبة كبيرة من السكان، خاصة خلال الحقبة الساسانية وبعد انتشار المسيحية في القرن الأول الميلادي ظلت مزدهرة في العصور الإسلامية المبكرة، لكن الأعداد بدأت بالتراجع تدريجياً بسبب الاضطهاد الديني، الضرائب المفروضة مثل الجزية والغزوات المغولية والعثمانية التي استهدفت الأقليات".
وفي العصر الحديث، تسارعت وتيرة الانخفاض بشكل كبير خلال القرن العشرين نتيجة الحروب، النزاعات الطائفية، والحصار الاقتصادي، وبعد 2003 وما تلاه من انهيار أمني، وظهور تنظيمات إرهابية تسببت بموجات هجرة جماعية للمسيحيين، إذ أدت هذه العوامل إلى انخفاض أعدادهم من عدة ملايين تاريخياً إلى أقل من 500 ألف نسمة اليوم، حسب قول البصير.
وهو يضيف أن "المسيحيين اليوم يتركزون بشكل رئيس في إقليم كوردستان وسهل نينوى، مع وجود أقلية صغيرة في بغداد والبصرة"، مبيناً أن "هذا التوزيع الجغرافي الحالي هو نتيجة لتحولات كبيرة عبر التاريخ".
ووفقاً للبصير، فإن سيطرة داعش على الموصل وسهل نينوى في العام 2014 كانت نقطة تحول رئيسة، حيث فرّ معظم المسيحيين من هذه المناطق إلى إقليم كوردستان أو دول أخرى، وعلى الرغم من تحرير هذه المناطق، فإن عودة المسيحيين إليها كانت محدودة بسبب نقص الأمن والخدمات.
ويعتبر إغلاق الكنائس في العراق منذ العام 2007 تحديداً مؤشراً واضحاً على التحديات التي تواجه المسيحيون، حيث تحولت هذه الأماكن التي كانت رمزاً للحياة الروحية والإيمان إلى أماكن مهجورة.
وفي (5 آذار 2021)، زار البابا فرنسيس - بابا الفاتيكان- العراق لأول مرة، وأطلق خلال الزيارة نداء ملحاً، قائلاً: "لتصمت الأسلحة!"، فيما أشار إلى الاستماع إلى "من يصنع السلام".
"القانون العراقي حاضن للديانة المسيحية"
رغم المحاولات الحكومية للتصدي للانتهاكات التي طالت المسيحيين، ومساهمات بعض الجهات مثل التيار الصدري في استعادة بعض الممتلكات، إلا أن المخاوف الأمنية والاجتماعية المستمرة، فضلاً عن عدم الشعور بالأمان الكامل، دفعت بغالبية المسيحيين إلى اتخاذ قرار الهجرة.
وبشأن حقوق المسيحيين في القانون العراقي، يقول علي التميمي، المتخصص في الشأن القانوني إن "محكمة المواد الشخصية تُعد جهة قضائية مختصة بالنظر في القضايا المتعلقة بغير المسلمين (المسيح)، مثل قضايا الإرث، الوصايا، التفريق، توزيع الأثاث، وغيرها من المسائل الشخصية"، مضيفاً أن "هذه المحكمة تعمل وفقاً لقواميس الطائفة المعنية، سواء كانت مسيحية، إيزيدية، أو صابئية، وتستند في قراراتها إلى مرجعيات متعددة، منها مجلة الأحكام العدلية الصادرة في العهد العثماني، القوانين العراقية النافذة، الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية سيداو، بالإضافة إلى الأعراف السائدة".
عادة، ترتبط محكمة المواد الشخصية بقاضي البداءة، إلا إذا تم تخصيص قاض مستقل لها، والكلام للتميمي، الذي تابع قائلاً: "كما أنها تستعين بمرجعيات الطائفة الدينية للاستفسار عن القواميس أو الأحكام التي تحكم الطائفة المعنية لضمان تطابق القرارات مع التشريعات الدينية الخاصة".
وأردف التميمي في حديثه أن "زخم العمل في هذه المحاكم يختلف من منطقة إلى أخرى، حسب الكثافة السكانية للطائفة، وأن القرارات الصادرة عنها يمكن الطعن بها تمييزاً أمام محكمة التمييز الاتحادية، ما يجعلها جزءاً أساسياً من المنظومة القانونية العراقية التي تراعي التنوع الديني والثقافي، وتحرص على حماية حقوق جميع المواطنين وفقاً لقوانينهم الخاصة".
المادة 125 من الدستور العراقي تشير إلى "ضمان الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية لمختلف القوميات"، بينما نصت المادة (41) على "العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب ديانتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون". وأكدت المادة (43) من الدستور أن "أتباع كل دين أو مذهب أحرار في (أ) "ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية و(ب) "إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها، وينظم ذلك بقانون".
المصدر: وكالات