محمد الربيعي*
(الحلقة 11)
التجربة الامريكية
في قلب النظام التعليمي الامريكي، تكمن فكرة اللامركزية، حيث تتنحى الحكومة الفيدرالية جانبا لتفسح المجال امام الولايات والحكومات المحلية لتولي زمام الامور. هذا يعني ان كل ولاية، بل كل منطقة تعليمية، تتمتع بسلطة كبيرة في تحديد المناهج الدراسية وادارة المدارس وتمويلها. ولا يقتصر هذا الامر على التعليم المدرسي، بل يمتد ليشمل الجامعات والكليات التي تتمتع باستقلالية كبيرة في تحديد برامجها ومعايير القبول فيها. هذا النهج الفريد يضمن استجابة التعليم لاحتياجات المجتمع المحلي، ويعزز الابتكار والتجريب في اساليب التدريس. ولكن، هل هذا التنوع اللامركزي يعد ميزة ام تحديا؟ وهل يضمن حصول جميع الطلاب على فرص تعليمية متكافئة؟ دعونا نتعمق في هذا النظام ونكتشف خباياه مع ذكر مميزاته وافضليته.
مميزات النظام التعليمي في الولايات المتحدة
التنوع والمرونة:
يتميز النظام التعليمي في الولايات المتحدة بتنوع ومرونة كبيرين على مستوى التعليم المدرسي، حيث تتعدد اشكال المؤسسات التعليمية المتاحة للطلاب. فالمدارس العامة، وهي الخيار الاكثر شيوعا، تمولها الدولة وتعتبر مجانية، لكن جودتها قد تختلف من منطقة لاخرى تبعا للتمويل المحلي. بالاضافة الى ذلك، توجد المدارس الخاصة، وهي مؤسسات غير ربحية او ربحية تعتمد على الرسوم الدراسية، وتقدم برامج تعليمية متخصصة او تركز على جوانب معينة كالتعليم الديني او اللغات او الفنون. كما تبرز المدارس المستقلة (Charter Schools) كخيار اخر، وهي مدارس عامة ممولة من الدولة ولكنها تتمتع باستقلالية اكبر في ادارة شؤونها وتحديد مناهجها. ولا ننسى التعليم المنزلي (Homeschooling)، حيث يتولى الاهل مسؤولية تعليم ابنائهم في المنزل، وهو خيار يزداد الاقبال عليه لاسباب مختلفة، منها الرغبة في توفير تعليم اكاديمي معين او بسبب مخاوف تتعلق ببيئة المدرسة. هذا التنوع يتيح للعائلات اختيار الخيار التعليمي الانسب لاطفالهم بناء على عوامل متعددة، مثل الامكانيات المالية والاحتياجات التعليمية الخاصة والقيم والمعتقدات.
يمتد هذا التنوع والمرونة ليشمل التعليم العالي بشكل اوسع، حيث تتعدد انواع مؤسسات التعليم العالي وتختلف في اهدافها وبرامجها. فهناك الكليات المجتمعية (Community Colleges) التي تقدم برامج لمدة سنتين تفضي الى شهادات جامعية متوسطة او برامج تحضيرية للانتقال الى الجامعات. كما توجد الكليات الليبرالية للفنون (Liberal Arts Colleges) التي تركز على التعليم الشامل في العلوم الانسانية والاجتماعية والطبيعية. اما الجامعات البحثية (Research Universities) فهي مؤسسات كبيرة تقدم برامج دراسات عليا ودكتوراه وتجري ابحاثا متقدمة في مختلف المجالات. وتختلف الجامعات ايضا في حجمها وهيكلها وبرامجها ومتطلبات القبول فيها، مما يتيح للطلاب اختيار الجامعة التي تناسب طموحاتهم الاكاديمية والمهنية. وبالاضافة الى تنوع المؤسسات، يتميز النظام التعليمي بمرونة كبيرة في المسارات التعليمية، حيث يمكن للطلاب الانتقال بين انواع المدارس المختلفة او بين الكليات والجامعات. كما توجد خيارات للتعليم عن بعد والتعليم بدوام جزئي، مما يتيح للافراد مواصلة تعليمهم بجانب التزاماتهم الاخرى. بشكل عام، يعد التنوع والمرونة من نقاط القوة في النظام التعليمي الامريكي، حيث يتيح للطلاب وعائلاتهم اختيار المسار التعليمي الامثل الذي يمكنهم من تحقيق اهدافهم.
اللامركزية:
تعد اللامركزية من ابرز سمات النظام التعليمي في الولايات المتحدة، وهي سمة تمتد من التعليم المدرسي الى التعليم العالي، وتضفي عليه طابعا فريدا من المرونة والاستجابة لاحتياجات المجتمعات المختلفة.
في التعليم المدرسي: تمنح اللامركزية الولايات والمناطق المحلية سلطة واسعة في ادارة المدارس العامة وتمويلها، وكذلك تحديد المناهج الدراسية. هذا يعني ان كل ولاية، بل كل منطقة تعليمية داخل الولاية، تتمتع بصلاحية وضع معاييرها التعليمية الخاصة التي تتناسب مع احتياجات طلابها وخصائص مجتمعها. فمثلا، قد تركز منطقة زراعية على تعليم العلوم الزراعية والمهارات المرتبطة بها، بينما تهتم منطقة صناعية بتعليم العلوم التقنية والهندسية. هذه المرونة تمكّن المدارس من تلبية احتياجات سوق العمل المحلي وتخريج طلاب مؤهلين للانخراط فيه.
في التعليم العالي: تستمر اللامركزية في لعب دور مهم، حيث تتمتع الجامعات والكليات باستقلالية كبيرة في ادارة شؤونها الاكاديمية والمالية. فهي تحدد برامجها الدراسية ومعايير القبول الخاصة بها، وتجري ابحاثها بشكل مستقل. هذا الاستقلال يشجع الابتكار والتنافس بين المؤسسات التعليمية، ويساهم في رفع مستوى جودة التعليم العالي بشكل عام. فنجد جامعات تركز على البحث العلمي، واخرى تركز على التعليم المهني، وثالثة تركز على التعليم الليبرالي للفنون. هذه الخيارات المتنوعة تتيح للطلاب اختيار المؤسسة التي تناسب طموحاتهم واهدافهم.
بشكل عام، تساهم اللامركزية في جعل النظام التعليمي الامريكي اكثر مرونة واستجابة للتغيرات في المجتمع واحتياجات سوق العمل. كما تشجع الابتكار والتجريب في اساليب التدريس والبحث العلمي. ومع ذلك، قد تؤدي اللامركزية ايضا الى تفاوت في جودة التعليم بين المناطق المختلفة، وهو تحدٍ يسعى النظام التعليمي الامريكي للتغلب عليه.
التطوير الشامل:
يعتبر التركيز على التطوير الشامل للطالب من الميزات الهامة في النظام التعليمي بالولايات المتحدة، حيث لا يقتصر التعليم على الجوانب الاكاديمية التقليدية، بل يمتد ليشمل جوانب اخرى تساهم في بناء شخصية متكاملة.
في التعليم المدرسي: تولي المدارس اهتماما كبيرا بالانشطة اللاصفية، مثل الرياضة بانواعها المختلفة، والفنون كالموسيقى والرسم والمسرح، والانشطة الاجتماعية والتطوعية. هذه الانشطة تساعد الطلاب على اكتشاف مواهبهم وقدراتهم غير الاكاديمية، وتنمي لديهم مهارات مهمة كالعمل الجماعي والقيادة والتواصل وحل المشكلات. كما تساهم في تعزيز ثقتهم بانفسهم وتكوين صداقات وعلاقات اجتماعية ايجابية. بالاضافة الى ذلك، تشجع المدارس على المشاركة في الاندية والمنظمات الطلابية التي تعنى بمختلف المجالات، من العلوم والتكنولوجيا الى الادب والثقافة، مما يثري تجربة الطالب التعليمية ويوسع افاقه.
في التعليم العالي: تستمر الجامعات والكليات في التركيز على التطوير الشامل، حيث تقدم مجموعة واسعة من الانشطة والبرامج اللاصفية. توجد فرق رياضية جامعية تنافس على مستوى عال، وتقام عروض فنية وموسيقية ومسرحية بشكل دوري. كما تشجع الجامعات على الانخراط في الاندية والمنظمات الطلابية التي تغطي مختلف الاهتمامات، من السياسة والاقتصاد الى البيئة وحقوق الانسان. توفر الجامعات ايضا مراكز للارشاد والتطوير المهني تساعد الطلاب على اكتشاف مساراتهم المهنية وتطوير مهاراتهم اللازمة لسوق العمل. هذا التركيز على التطوير الشامل يساعد الطلاب على النمو كافراد متكاملين، ويعدهم لمواجهة تحديات الحياة ما بعد التخرج بنجاح.
بشكل عام، يساهم التركيز على التطوير الشامل في بناء جيل من الشباب يتمتع بمعرفة ومهارات متنوعة وشخصيات متوازنة، قادر على المساهمة بفاعلية في المجتمع.
الفرص المتاحة للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة:
يولي النظام التعليمي في الولايات المتحدة اهتماما بالغا بالطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك من خلال توفير مجموعة متكاملة من البرامج والخدمات التي تضمن حصولهم على تعليم جيد وفرص متكافئة للنجاح.
في التعليم المدرسي: يعتبر قانون تعليم الافراد ذوي الاعاقة (IDEA) حجر الزاوية في توفير التعليم المناسب للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة. يضمن هذا القانون حصول كل طالب على "تعليم عام مجاني ومناسب" (FAPE) في "البيئة الاقل تقييدا" (LRE)، اي قدر الامكان مع اقرانهم من غير ذوي الاعاقة. يتم وضع "برنامج تعليمي فردي" (IEP) لكل طالب، يحدد احتياجاته واهدافه التعليمية والخدمات اللازمة لتحقيقها، مثل خدمات النطق والعلاج الطبيعي والدعم النفسي وتعديل المناهج وتوفير التكنولوجيا المساعدة. يشارك اولياء الامور بشكل فعال في وضع وتنفيذ ومراجعة هذا البرنامج.
في التعليم العالي: تلتزم الجامعات والكليات بتوفير تسهيلات وخدمات للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، بموجب قوانين مثل قانون الامريكيين ذوي الاعاقة (ADA). تشمل هذه التسهيلات توفير اماكن اقامة مجهزة، وتعديل اساليب التدريس والاختبارات، وتوفير التكنولوجيا المساعدة، وخدمات الدعم الاكاديمي والنفسي. تنشئ العديد من الجامعات مكاتب خاصة تعنى بشؤون الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، تقدم لهم الارشاد والدعم اللازمين للتغلب على التحديات الاكاديمية والاجتماعية.
يساهم هذا الاهتمام المتزايد بالطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة في دمجهم بشكل فعال في المجتمع وتوفير الفرص لهم لتحقيق كامل امكاناتهم. ومع ذلك، لا يزال هناك تحديات تواجه هذا المجال، مثل ضمان جودة الخدمات وتوفير التمويل الكافي وتدريب الكوادر المتخصصة.
التعليم العالي المتميز:
يعتبر التعليم العالي المتميز من ابرز مميزات النظام التعليمي في الولايات المتحدة، حيث يشتهر عالميا بجودته العالية وتنوعه الكبير، مما يجعله وجهة مفضلة للطلاب من جميع انحاء العالم. هذا التميز لا ينفصل عن جودة التعليم المدرسي الذي يعدّ الطالب للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي.
التعليم المدرسي: يركز التعليم المدرسي في الولايات المتحدة على بناء اساس قوي في مختلف المجالات، وتنمية مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات لدى الطلاب. هذا الاعداد الجيد يسهل انتقال الطلاب الى التعليم العالي، حيث يجدون انفسهم امام خيار ات واسعة من الجامعات والكليات التي تناسب مختلف الاهتمامات والطموحات.
التعليم العالي المتميز: تتميز الولايات المتحدة بوجود نخبة من افضل الجامعات في العالم، مثل جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة ستانفورد وغيرها، التي تقدم برامج اكاديمية متقدمة في مختلف التخصصات، من العلوم والهندسة الى العلوم الانسانية والفنون. هذه الجامعات توفر بيئة تعليمية محفزة تشجع على الابتكار والابداع، وتتيح للطلاب فرصا بحثية ممتازة تحت اشراف اساتذة وباحثين مرموقين. كما توفر هذه المؤسسات موارد وخدمات متكاملة لدعم الطلاب في رحلتهم التعليمية، مثل المكتبات الضخمة والمختبرات المتطورة ومراكز الارشاد والتطوير المهني.
بالاضافة الى الجامعات الكبرى، توجد في الولايات المتحدة ايضا العديد من الكليات الصغيرة والكليات المجتمعية التي تقدم تعليما عالي الجودة باجور معقولة، وتركز على التدريس والتفاعل المباشر مع الطلاب. هذا التنوع يتيح للطلاب اختيار المؤسسة التي تناسب احتياجاتهم وميزانيتهم.
بشكل عام، يساهم التعليم العالي المتميز في الولايات المتحدة في تخريج قادة ومبتكرين ورواد في مختلف المجالات، ويعزز مكانة الولايات المتحدة كمركز عالمي للمعرفة والابتكار.
افضلية النظام التعليمي في الولايات المتحدة:
يتميز النظام التعليمي في الولايات المتحدة بهدف شامل هو اعداد الطلاب للنجاح في الجامعة والحياة العملية، وذلك من خلال منهجية متكاملة ترتكز على عدة جوانب اساسية. يهدف النظام الى تزويد الطلاب بالمعرفة والمهارات الضرورية للانخراط في التعليم العالي وسوق العمل، مع التركيز بشكل خاص على تنمية التفكير النقدي والابداع. يشجع الطلاب على تحليل المعلومات بشكل مستقل، وطرح الاسئلة، وتقييم وجهات النظر المختلفة، وحل المشكلات بطرق مبتكرة. هذه المهارات لا تعد اساسية للنجاح الاكاديمي فحسب، بل تعتبر ايضا من اهم الادوات التي يحتاجها الفرد لمواجهة تحديات الحياة العملية واتخاذ قرارات مستنيرة. بالاضافة الى ذلك، يسعى النظام التعليمي الامريكي جاهدا لتوفير فرص تعليمية متساوية لجميع الطلاب، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية او اي اعتبارات اخرى. هذا الالتزام بالعدالة والمساواة يهدف الى تمكين جميع الطلاب من تحقيق كامل امكاناتهم والمساهمة بفاعلية في المجتمع. باختصار، يركز النظام التعليمي الامريكي على بناء جيل من المفكرين المستقلين والمبدعين والمجهزين بالمهارات اللازمة للنجاح في عالم دائم التغير.
بعض السلبيات والتحديات التي تواجه النظام التعليمي في الولايات المتحدة:
يواجه النظام التعليمي في الولايات المتحدة، رغم تميزه في جوانب عديدة، بعض التحديات الهامة التي تتطلب معالجة فعّالة. من ابرز هذه التحديات التفاوت الكبير في جودة التعليم بين المدارس في المناطق المختلفة. حيث تعاني المدارس الواقعة في المناطق الفقيرة والمحرومة من نقص حاد في التمويل والموارد التعليمية، مما يؤثر سلبا على جودة التعليم المقدم للطلاب في هذه المناطق ويعمق الفجوة التعليمية بينهم وبين طلاب المدارس في المناطق الاكثر ثراء. يضاف الى ذلك ارتفاع تكاليف التعليم العالي بشكل كبير، ما يشكل عبئا ماليا ثقيلا على كاهل العديد من الطلاب وعائلاتهم، ويعيق حصول الكثيرين خصوصا من ابناء الطبقة العاملة على فرص التعليم الجامعي، او يضطرهم الى تحمل ديون طائلة لسداد تكاليف الدراسة. كما لا يزال النظام التعليمي يواجه تحدي الفجوة في التحصيل الدراسي بين الطلاب من خلفيات عرقية واجتماعية مختلفة، حيث تظهر الاحصائيات وجود تباين في النتائج التعليمية بين الطلاب من مختلف المجموعات العرقية والاجتماعية، ما يشير الى وجود عوامل هيكلية واجتماعية تؤثر على فرص النجاح التعليمي للطلاب من بعض الخلفيات اكثر من غيرها. هذه السلبيات تؤثر بشكل مباشر على عدالة النظام التعليمي وقدرته على توفير فرص متكافئة لجميع الطلاب.
على الرغم من هذه التحديات، يظل النظام التعليمي في الولايات المتحدة من بين افضل الانظمة في العالم، حيث يوفر فرصا تعليمية ممتازة للطلاب ويساهم في اعدادهم لمستقبل ناجح.
الخلاصة:
يهدف النظام التعليمي الامريكي لاعداد الطلاب للجامعة والحياة العملية بتزويدهم بالمعرفة والمهارات، مع التركيز على التفكير النقدي والابداع، والسعي لتوفير فرص متساوية. لكنه يواجه تحديات كالتفاوت في جودة التعليم بين المدارس، وارتفاع تكاليف التعليم العالي، والفجوة في التحصيل بين الطلاب من خلفيات وطبقات اجتماعية مختلفة. رغم هذه التحديات، يساهم تركيز النظام على التفكير النقدي والاعداد الشامل في تخريج افراد مؤهلين، لكن معالجة السلبيات ضرورية لضمان تكافؤ الفرص والجودة الشاملة.
نشرت ضمن هذه السلسلة تجارب التعليم في بريطانيا والصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وهولندة وفنلندة وكوبا وايرلندة واليابان والمانيا.
- بروفسور في الهندسة البيوكيميائية ومستشار مهتم بالتربية والتعليم. جامعة دبلن.