TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: في صناعة المباهج أمس

قناطر: في صناعة المباهج أمس

نشر في: 29 ديسمبر, 2024: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

للذين يقولون بأنَّ الحياة قبيحة أقول: بأنها ليست كذلك. نعم، هي مرهقة، وقد تكون جاحدة مرةً، لكننا من نجعلها على الصورة التي نتخيلها. بالأمس، وما ودعتُ أصدقائي الذين عبروا النهر وحلوا ببيتي، بيتهم، قادمين من عبادان والفلاحية والاحواز، محمّلين بالشوق العربي، وبأجمل الهدايا، بعد إقامة قصيرة، تمنيتها أن تطول، وحديث الشعر والسينما والسفر والطعام والأشربة، ما يسكر منها وما هو ليس كذلك، وبعد سهر في ليل شتوي، راح يطول، وبعد عناقات متكررة، واحتضان لا يتم إلا بتقريب القلب من القلب، والروح من الروح غادرونا عائدين، حتى اتصل بي الصديق الباحث في الشأن التاريخي د. مشتاق عيدان ليعلمني بموعد زيارتنا الى معلمي الأول الشاعر والمربي عبد العزيز عسير، والتي سيصحبنا فيها الفنان طالب غالي، الموسيقي والملحن والشاعر الذي يزور البصرة قادماً من مهجره في الدنمرك.
في بيت يقع بضاحية جديدة شمال غرب البصرة، ليست بعيدة كثيرا عن مركز المدينة، وفي غرفة عُلوية هادئة يسكن الأستاذ عسير. كان علينا أن نصعد اليه، فهو لا يستطيع نزول سلّم البيت الدائري، بسبب حالته الصحية- ليتني تحدثت مع الدكتور لؤي حمزة عباس، الذي أنجز أخيراً كتاباً عن السلالم، وأوصيته بشيءٍ عن سلم المريض الدائري- ليست زيارتي الأولى لأستاذي عبد العزيز عسير، وأتمنى أن لا تكون الأخيرة، فعند رأسه وقفتُ مستعيداً الساعات الطوال، التي كنت أمضيتها في حضرته، يوم كان طالباً في آداب جامعة البصرة، عند نازك الملائكة، التي كثر الحديث عن ريادتها وفحولتها الشعرية في الأيام الأخيرة هذه.
إبّيضَ شعرُ رأسي نعم، حتى صار يشبه شعر رأسه ولحيته، وصرتُ أعاني من صعود السلم الذي لم يهبطه من سنة ربّما، وأجدني في الاريكة مستريحاً أكثر مما أجدني صاعداً، مُجهداً، لكنني لم أرني إلا طالباً في حضرته، أتقدّم منه بالقصيدة هذه وتلك، ثم يضع مشرطه على البيت هذا وذاك، راضياً مرةً، ومصوّباً مرة أخرى، يرشدني الى الكتاب ذاك، فأهرعُ مقتنياً، ويسمعني تقطيع البحر ذاك فأكررهُ على لساني.. هكذا، كنتُ في حضرته أمس، لم أشأ أنْ أنسب الى نفسي شيئاً لا يعرفه، بل ولم أجد في خبيئتي ما ليس عنده، هذا الفتى الشاعر اللغوي الذي حاجَّ الملائكة في العروض، لم يوم لم يجرؤ أحدٌ على محاجتها في أمرٍ من أمور اللغة والشعر والعروض، ظل ممدداً على سريره، يتعبه الحديث، وترهقه الحركة الزائدة، كنتُ أتمنى أن تطول إقامتي في حضرته، علّني أمتاحُ وبدلوي الصغير قطرةً أخرى، من بئر علمه ومعرفته العميقة.
كان صباحُ الامس مؤنقا أكثر من صباح يوم أمس، مطرُ البارحة زانه، وأضفى عليه من غضارته طهراً وعفةً، ولكي يكون كذلك، بل، وقبل أن أكمل فنجان القهوة خاصتي، يتصل بي كاتب القصة، والروائي الاكاديمي لؤي حمزة عباس ليقول بأنَّ الصباح هذا لا يليق إلا برجل اسمه طالب عبد العزيز، يا سلام: قلتُ، ثم أنني خطوتُ الى النافذة خطوتين وثلاث، وحين تكشفت الفضاء المحيط من حولي هالني ما فيه، نعم، كان صباحاً قد أفردُ لي حقّاً، لنا نحن الاثنين، هو أفرد لكل البصريين، الذي على شط العرب الآن، والذين سيصلونه بعد ساعة وساعتين، إذْ لن يكون الصباح الشتوي الماطر في ليله جميلاً إلا عند شط العرب، روح البصرة الخالد.
أنا الآن أستوي على ظهر الورقة البيضاء هذه، أكتب يوميات شخصية، قد لا ترضي رئيس التحرير، إذ ما شانُ الجريدة والهذر الذي أنا كاتبه. أعلم أنَّ الكون يمور ويخور في أمكنة كثيرة من العالم، وهناك أكثر من مفصل أمنيٍّ واقتصادي وسياسيٍّ يمكنني تناوله، أو يتوجب عليّ تتبعه، لكنْ وما شأني إذا كان العالم لا يريد أن يهدأ، ولماذا أتعقب حوادث غير منتهية، تدركني بآلاتها، ولا أدركها بآلة الصفح والمحبة، فأنا رجل أعزل إلا من قلب يحبُّ، وعينٍ لا ترى في الأرض إلا ما كان جميلاً، أنا لا أهددُ أحداً، بل وغير فاعل، أرى أنَّ وظيفتي تأطير الجمال حيث وجدتُ الى ذلك سبيلاً. سأعلمُ لؤيٍّ بذلك وأقول له عليك أنْ تكتب فصلاً جديداً خاصاً بسلالم الجمال.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Shaymaa

    منذ 11 شهور

    رائع ماكتبت استاذ اخذتني حروفك معك في رحلتك، استمتع بقراءة هذيانك و ملاحظاتك فهي قريبه للشارع.. قارءة من مكان ما في بلد الحضاره ترسل لك تحياتها 💙🤍

يحدث الآن

المنافذ تحقق أكثر من 2.2 تريليون دينار إيرادات جمركية في 2025

التشكيلة الرسمية لمنتخبنا الأولمبي لمواجهة عُمان ببطولة كأس الخليج

الأمم المتحدة: 316 مليون متعاطٍ للمخدرات عالمياً

القضائية تستبعد نجم الجبوري من مقاعد نينوى الانتخابية

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram