الغربي عمران
علي لفتة سعيد، أديب متعدد الإنتاج الأدبي، فبالإضافة إلى كتابته للرواية، له إصدارات أخرى في القصة، والشعر، وكذلك المسرح والنقد. وقد تُرجمت بعض أعماله إلى لغات غير العربية، وهو حاصد لما يقارب عشر جوائز أدبية. ذلك ما يشير إلى أننا أمام أديب نشيط ومثابر في تحقيق مشروعه الأدبي، إذ وصلت إصداراته الى الأربعين كتابًا، كما كتبت العديد من الأبحاث والأطروحات والكتابات النقدية حول أعماله المختلفة. وبالعودة إلى روايته "تاريخ المرايا" الصادرة في الجزائر عن دار العوض للنشر والتوزيع، 2024، التي تجاوزت صفحاتها المئتين، وتوزعت على عشرة أقسام جاءت عناوينها كما يلي: 1985، 1995، 1986، 2002، 1996، 1998، 1999، 2004، 2005، وختمها الكاتب بعنوان 2014. وبذلك تغطي الرواية أحداث ثلاثين عامًا من الحرب المتواصلة على المجتمع العراقي.
مجتمع فُرضت عليه الحروب، ليس لشيء إلا أن رأس النظام أراد ذلك. بداية بحرب العراق وإيران، مرورًا بالحروب الداخلية التي شنها النظام على الأكراد ومعارضيه، في مجتمع حاول التخلص من الحروب المتكررة، ومحاولاته الانعتاق من سلطة نظام القائد. ثم غزو الكويت وما تلاه من حروب وسقوط نظام صدام، وأخيرًا حرب تنظيم داعش الذي هدد بغداد بالسقوط. وكما توحي الرواية، فإن العراق معرضة في أي لحظة للاحتراب.
شخصيات "تاريخ المرايا" مجموعة من الأصدقاء: مصدام، مسعود، جامد، وطارق، إضافة إلى شخصيات ثانوية أخرى. غير أن تلك الأسماء استطاع الكاتب أن يعبّر بها عن أدقّ الآمال وما عاناه ويعانيه المجتمع العراقي، إذ تمثل تلك الشخصيات جيل الأبناء، الذي سبقه جيل الآباء، وختم الكاتب الرواية بجيل الأحفاد الذين أصبحت أعظم أحلامهم الهجرة خارج العراق. إذاً هي رواية أجيال تغطي ما يقارب ثلاثين سنة من المآسي والويلات.
الفضاء المكاني في الرواية مدن وأنهار وسهول وصحاري وأهوار العراق: بغداد، الموصل، النجف، كربلاء، الأنبار، الجبهات القتالية، الصحاري، وشط العرب. بل وشمل السرد أحداث شخصيات الرواية خارج العراق.
اعتمد الكاتب في سرد أحداث الرواية ووصف الأمكنة والشخصيات على راوٍ عليم، يرصد الأحداث ويصف الشخصيات والأمكنة، بل ويصف بعض الشخصيات من الداخل، من خلال حديث الشخصية إلى نفسها، أو ما تراه وتعتقده.
لم يستخدم الكاتب التصاعد الزمني في سرد الأحداث، فمن خلال تلك التواريخ نجد أنه بدأ الرواية بعام 1985، صاعدًا إلى عام 1995، ثم عاد إلى الماضي لرصد أحداث 1986، وبعدها انتقل إلى الأمام عام 2002، ليعود بعدها إلى الماضي في عام 1996، وهكذا. وبتلك النقلات الفنية التي اتسمت بها الرواية، منحها الكاتب مرونة وسلاسة، مقدّمًا تلك الأحداث في قالب مشوّق لثلاثين سنة عاشها العراق. ونتيجة لما دار في الماضي القريب، نتابع اليوم شعبًا يستشرف المستقبل، آملًا في حياة مستقرة بعد تجاوز الطائفية والمناطقية، وتجاوز إملاءات الطامعين من دول الجوار والقوى العالمية.
أصدقاء طفولة، ومن طوائف مختلفة: أبناء حي واحد وزملاء دراسة. مسعود من طائفة سُنّية، وجامد من طائفة شيعية، ومصدام المتمرد الذي أوحت الرواية بأنه من نفس طائفة جامد، ثم طارق من طائفة الصابئة. هم أصدقاء الحي الواحد الذي مثّل تعايش مجتمع منفتح ومتحضر. حتى جاء من يبذرون بذور الفرقة والكراهية وعدم القبول بالمختلف.
عالجت الرواية تلك التحولات، بدايةً من أثر تلك الحروب على النسيج الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص على من شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، حصدت خلالها عشرات الآلاف من خيرة الشباب، ويتمت آلاف الأطفال، ورملت آلاف النساء، وخرج الناجون منها غير ما دخلوها. وفي النهاية يكتشف الجميع أن تلك الحرب لم يكن لها مردود إيجابي على العراق.
ثم تلتها حروب أخرى لم يجْنِ منها العراق إلا الخراب والفساد ورسوخ التسلط، ككارثة اجتياح الكويت، وما تلاه من احتلال العراق من قِبَل القوى الخارجية. واستمر ذلك الاحتلال بصور مختلفة حتى اليوم، وما نتج عنه من تفشي وترسيخ الانقسامات الطائفية والعرقية، محولين العراق إلى وطن مستلب، تتصارع فيه القوى الداخلية لكسب رضا قوى خارجية لا همّ لها إلا مصالحها.
جسَّد الكاتب رعبَ الشباب من أجهزة النظام الأمنية، فلا أحلام بمستقبل جميل بعد تفشِّي الفقر والحاجة إلى الأمان، وخوف الوقوع في السجون. ولذلك فرَّ أحد الأصدقاء "مصدام" ليس لشيء، إلا لأنه كان صاحب آراء مخالفة، وبقي أصدقاؤه يتابعون أخباره بعد أن نجح في الهروب عبر إيران إلى باكستان، ثم إلى لندن، معلنًا انضمامه إلى حركة المعارضة في الخارج. لتلقي قوات النظام القبض على والده ويتم إعدامه، كما دمَّروا منزلهم ليُصبِح ركامًا وعبرةً لمن يُفكِّر في الخروج عن طاعة السلطة. ومع تجدُّد حروب صدام، ظلَّ أصدقاؤه في الداخل تحت رعب استدعائهم مرة أخرى للخدمة العسكرية، ذلك الرعب الذي يُمثِّل الموت والضياع.
في نهاية الأمر، يعمل مسعود وجامد كعمال بناء، مثل والديهما، في بناء جدران المنازل والأسوار، ويحلمان أن يُصبحا يومًا ما مُعلِّمي بناء، وأن يتزوَّجا ويعيشا في استقرار بعيدًا عن شبح استدعائهما للموت أو اقتيادهما إلى السجون.
ينضمُّ إليهما طارق، "صابئي"، صديق الطفولة والدراسة بعد هروب مصدام، لتستمر علاقاتهم حذِرة؛ كلٌّ منهم يخاف من الآخر لئلَّا يكون عينًا للسلطة. حياة الخوف والذل والمهانة كانت السمة لذلك الجيل، أمام عُتُوِّ وتسلُّط وتجبر رجال السلطة الذين يتذرعون بأبسط الأعذار لزجِّ هذا في السجن، ونسف بيت ذاك لمجرد أنه قال كذا وكذا.
تابع العالم حروب صدام المتتالية التي لم يجْنِ العراق من ورائها إلا الدمار، وضياع استقراره ونمائه. وامتلأت المنافي، حتى اليوم، بمن فرُّوا طلبًا لحياة كريمة وآمنة بعيدًا عن العوز والخوف.
نجحت الرواية في رصد حياة تلك الشخصيات وإيقاع حياتهم، في مشاهد سردية مدهشة، تخلَّلتها التفاصيل الصغيرة، ليتعرف القارئ إلى حجم الكوارث النفسية لأفراد مجتمع يعيش تحت تسلُّط جائر.
تلك المشاهد صوَّرت كوارث الحروب من تدمير لنسيج المجتمع المتعايش. ليصل المجتمع إلى كارثة استشراء الطائفية التي مزَّقت النسيج الوطني، فتركَت أُسَرًا بيوتها ورحلت لأن جيرانها من طائفة مختلفة، فلا يأمن كلٌّ على نفسه وبيته في حيٍّ يسكنه أتباع طائفة أخرى. وتحولت المدن العراقية والجهات إلى بقع طائفية وعرقية لا يُخالطها أحد؛ كنتونات ترفض الآخر، بل وتكفِّره وتُبيح دمه وماله وعرضه.
قال مسعود: "إن احتلال الكويت يختلف عن الحرب مع إيران، والدخول إلى الخفجي ليس كالدخول إلى المحمرة أو البساتين، والتهديد لإسرائيل ليس كالتهديد لسوريا…"
تحملنا الرواية إلى زمن ما بعد صدام، وما يعلنون في وسائل الإعلام عن نظام ديمقراطي، بينما الدستور الجديد عمَّق الطائفية من خلال المحاصصة، فتحولت مؤسسات الدولة إلى مؤسسات طائفية، وقُسِّمت أحياء المدن إلى مناطق طائفية. وما زاد الخراب، بروز صوت تنظيم داعش، الذي نشر الرعب بتفجير أنفسهم، وتفجير سيارات مفخخة في الأسواق وأمام دور العبادة، لتنتشر رائحة الموت. وتجذَّر الفساد ببروز الإرهاب الذي أفرز عراقًا مستلبًا، إذ إن كل طائفة تستمد قوتها من الطوائف الأخرى بالولاءات والعمالات الخارجية، بينما تستغل تلك القوى الإقليمية والعالمية ذلك لمصالحها، ليتحول العراق إلى دولة شكلًا ودويلات مضمونًا. "هؤلاء الذين انتفخوا بسرعة وأصبحت لهم قصور وحمايات وسيارات آخر موديل، يريدون لنا أن نقاتل نيابة عنهم".
طارق يهاجر وأسرته، ويكتب لصديقيه جامد ومسعود من ألمانيا، يدعوهما للحاق به بعد أن استولى تنظيم داعش على ثلث العراق، وزحف باتجاه بغداد، لتبدأ الحرب من جديد تلوح في الأفق. حينها، يرد عليه جامد: "كُتِبَ علينا الحرب…" رفضًا لفكرة الهجرة.
أما مالك القصر الذي يقوم ببنائه جامد ومسعود، فيدعوهم للالتحاق بالمجاهدين ضد داعش، فيرد عليه جامد: "جنِّدوا جماعتكم الذين منحتوهم رواتب عالية جهادية…" فيتملَّك الغيظ مالك القصر، وهو من النواب الجدد، ويرد عليه بأن يوقفوا البناء في قصره، ليحرمهما من العمل عقابًا على رفضهما اتباعه.
تأتي خاتمة الرواية صادمة، أو فلنقل جارحة، حين يُفاجَأ جامد بطلب ابنه، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة، بتمنِّيه الهجرة. ليقف جامد ومن حوله في دهشة، لأن يُفكِّر صبي في الهجرة وترك بلاده. وهو ما أراد الكاتب أن يدُلَّ عليه؛ أن الساسة في العراق قد فشلوا في إيجاد مناخ آمن ومستقر. فبعد أن ضاقت الأحوال، أصبح خيار الصغير قبل الكبير الهجرة، بعد أن كان ذلك الخيار محصورًا على طوائف مستهدَفة وصغيرة، مثل الإيزيديين والصابئة والآشوريين.
لتصل الكارثة إلى أن تكون أعظم أمنية هي ترك العراق بالهجرة، وكأن أرض العراق خُلِقت للحرب والاقتتال. رواية يؤثِّثها الصدق الفني الذي يصل بالقارئ إلى الإيمان بأن ما يقرأه واقع، وتلك الشخصيات حقيقية.
كلمات قليلة في حق رواية مدهشة، هي تحية صادقة لكاتب يتحلى بالشجاعة الأدبية، وبروعة التناول الموضوعي والحس الفني.
الحقيقة الصادمة في رواية "تاريخ المرايا"
نشر في: 29 ديسمبر, 2024: 12:01 ص