ثائر صالح
يقول بعض العارفين بالموسيقى أن التدوين الموسيقي لا يعكس كل ما كان المؤلفون يودون قوله، رغم تطور هذا التدوين إلى حالة أشبه بالكمال وصل إليها خلال قرون طويلة. وقد زادت إرشادات المؤلف المكتوب فوق المدونة تدريجياً، ونقرأ عن توجيهات غوستاف مالر التفصيلية للعازفين والتي كتبها باللغة الألمانية غالباً. هذا يعني هناك قصور في تصور كيف كانت الموسيقى تؤدى في العصور القديمة، مثل العصور الوسطى أو عصر النهضة وحتى في عصر الباروك، رغم وجود التدوين الموسيقي.
كانت الموسيقى تؤدى بما يتوفر من الأدوات الموسيقية، وبمن يتوفر من موسيقيين، لذلك توجد مدونات موسيقية لم يحدد مؤلفها لأي أداة كتبها، مثلاً يمكن استعمال الفلوت أو الكمان في بعض الأعمال مثلاً لأن مداهما الصوتي متماثل تقريباً. والحالة الثانية هي تعداد الأدوات التي يمكن استعمالها، على سبيل المثال هناك مجموعة سوناتات نسبت إلى فيفالدي عنوانها "الراعي الأمين" هي في الأصل من تأليف الفرنسي نيكولا شَفدوفيل (1705 - 1782). وقد طبعها سنة 1738 على نفقته بعد أن نسبها إلى فيفالدي طمعاً في المبيعات والربح، وكان فيفالدي لا يزال حياً (توفي في فيينا سنة 1741 كما هو معروف). وحدد الأدوات بأنها ما يتوافر عندكم في البيت، ثم يذكر أسماء الفلوت والكمان والموزيت (القربة الفرنسية) كذلك كأداة رئيسية، بمصاحبة القرار المستمر (هاربسيكورد وتشيلو) الذي كان سطره اللحني يدون بشكل مبتسر دون كتابة التفاصيل التي على العازف معرفتها والتنويع عليها بما يشبه الارتجال.
وقد اختفى عدد كبير من الأدوات التي كانت تستعمل في تلك العصور من الفرق الموسيقية التي أخذت أشكالاً قياسية منذ انتهاء عصر الباروك على يد موسيقيي مدرسة مانهايم ولاحقاً هايدن. من هذه الأدوات التي أهملتها الأوركسترا الموزيت المذكورة وبشكل عام القربة، والسنطور وأداة تسمى الفييل الدوّار (أو العود الدوّار) وهي أداة عجيبة فيها بضعة أوتار ويعزف عليها بتدوير قرص مدهون بالراتنج ويجري تغيير طول الوتر بمفاتيح صغيرة مثل مفاتيح البيانو. وقد بقيت بعض هذه الأدوات تستعمل في الموسيقى الشعبية في بعض الأماكن، منها حوض الكاربات التي أنقذها من الإندثار جهد بارتوك وكوداي وباحثين آخرين من الدول المجاورة. هذه الموسيقى الشعبية تعطينا فرصة نادرة لمعرفة طرق الأداء وأساليب الارتجال التي كانت شائعة في العصور التي سبقت نهاية عصر الباروك.
التراث الموسيقي ينتقل عن طريق التدوين (المدونة الموسيقية والنصوص المكتوبة) وعن طريق الشفاه، أي النقل الشفاهي المباشر من المعلم إلى التلميذ، هو في عملية نقل المعرفة والخبرة وتراكمهما من جيل إلى جيل في المحصلة النهائية. وقد فقد هذا الجانب الثاني من التراث الموسيقي القديم ولم يصلنا منه سوى المكتوب. أما الموسيقى الشعبية فقد حافظت بالدرجة الأولى على الجانب الثاني، ولم يكن هناك تدوين بالمفهوم المتعارف عليه. هذه الخبرة الشفاهية التي حفظتها الموسيقى الشعبية تساعد على توضيح الكثير من الجوانب الناقصة في فهم وأداء الموسيقى القديمة.
موسيقى الاحد: الموسيقى الشعبية أصداء العصور القديمة
نشر في: 29 ديسمبر, 2024: 12:02 ص