TOP

جريدة المدى > عام > حول قلق الكتابة

حول قلق الكتابة

نشر في: 29 ديسمبر, 2024: 12:03 ص

كه يلان محمد
طريقُ الكتابةِ يبدأُ من القراءةِ والإبحارفي أمواج من الكتب ومايلي ذلك من اكتشاف الأساليب المتنوعة بعدد المؤلفين الذين تقرأُ أعمالهم الفكرية والإبداعية.هذه المسلمة هي ما تسمعها على لسانِ الكتاب المتصدرين للصف الأول. وما إن يتناولُ أي واحد من هؤلاء السادة تجربته الشخصية للانتقال من موقع القارىء إلى أرض الكتابة حتى يؤكدُ على أولوية القراءة. لكن هذه القاعدةَ قد لاتنطبقُ على الجميع. ماذا عن الأشخاص الذين يكتبون أكثر مما يقرأون؟ هل هم مُجبَّلون على الكتابة وهي ليست مهنة يمكنُ اكتسابها بالنسبة إليهم؟ قد يوافقنى كثيرُ من المهتمين بقراءة الرواية أنَّ هناك عدداً من المبدعين لايصعبُ عليك التبصر بالطابع الفطري لنصوصهم صحيح أنَّ ماينشرونه يبدو تنويعاً لتشكيلة واحدة أو أن كل مايتغير في العمل الجديد هو تغيير الأدوار على الخريطة نفسها أو توزيع مختلفُ دون استبدال الرقعة بغيرها. ألا يذكر ذلك بمن يمتلك صوتاً عذباً ويكون نابغاً في الغناء دون الدراية بالتنظير الفني وطبقات الصوت وفهم الَّسلم الموسيقى؟! ألا يشبه قدر هذه الفئة من الكُتاب أصحاب المواهب الذين ينجحون بكل البساطة في فصل الظل عن الضوء واستلهام فكرة اللوحة مما يتغافل عنه بقية البشر؟ّ!
طاولة الكتابة
مايجبُ أن يكون مبحثاً للنقاشِ ليس حقيقة أو صحة هذا الرأي الذي يجدُ في القراءات الغزيرة إكسيرَ الإبداع أو خطوةً أولى في معترك الكتابةِ.إنِّما الأهمُ هو إدراك مايقودُ نحو الكتابة. لماذا لايمكنُ الاكتفاء بالقراءة وعدم فتح الباب على ما يرافقهُ مزاجُ متقلبُ وصراعُ مع يوميات حافلة بالروتين الوظيفي؟ اللافتُ للانتباه أنَّ من أعلنَ ولائه لصفة القارىء الأبدي وعبر عن سعادته بالتطواف في غابة المكتباتِ أو وعدَ نفسه بأن كل مايقرأه راح يعيشهُ بجزئيات حياته انتهى به الأمر إلى طاولة الكتابة.هنا يتبادرُ إلى الذهن كل من سارتر وبورخيس فكان الأول يقرأُ ثلاثمئة كتاب في غضون سنة واحدة، والثاني كان يقول "فليفخر الأخرون بالصفحات التي كتبوها، أما أنا فأفخر بتلك التي قرأتُها" تأتي أفضلية القراءة بالنسبة إلى صاحب "مديح العتمة" من كونها عملية حرة وليست قسرية يقرأ المرءُ ما يرغبُ فيه بينما لايقدم في الكتابة أكثر مما هو بمستطاعه.وقد تكون الكتابةُ محاولةً لفكِ الارتباط بالكتب التي تلاحق القارىء ولاتنتهي علاقته معها بمجرد أن يختتمَ الصفحة الأخيرة.ومن المحتملِ أن تومض إلی الآن عدة عناوين في ذهن كل من يتابع هذا الحديث على الرغم من المسافة الزمنية التي تفصله عن التوقيت الذي كمل فيه قراءتها.ويمكن أن نذكر من واقع التجربة رواية "شوق الدرويش" لحمور زيادة فقد مضىت أكثر من ثماني سنوات على قراءة ذلك العمل الروائي لكن يبدو دائماً كأنَّه قيد الانتظار كذلك الأمر مع روايته الثانية " الغريق" التي أتخيليها تعدني بأنَّ بالعودةِ إليها أكتشف أكثر.وحالما يتحققَ هذا الوعدُ يقتضي الأمرُ مشاركته مع الآخر من خلال الكتابة. وبذلك نبرحُ عالمها إذن من الضروري أن تخلي رفوف الرأس لعناوين جديدة.وهذا يتطلبُ أن لا يكون التماهي مع الكتب والأفكار إلا مؤقتاً. مايجدرُ بالتنويه في هذا الإطار أنَّ ما يلمحَ إليه بعض الكُتاب على لسان شخصياتهم الورقية من حالة الاندماج بالرموز الأدبية والصوفية والفكرية والفنية يُمثلُ اعترافاً بما يعيشونه من الإقامة المتأرجحة في العوالم الموازية وبالتالي يكون الغرض من الكتابة هو مغادرة هذه المنطقة السديمية وهم يتخذون من شخصيات فرصة لرؤية هذا الاشتباك كما يتمثلُ إبداعياً. في رواية "إمرأتان" لريما سعد تُذكرُ دانيا صديقتها كارا بمشكلتها المزمنة وهي التماهي مع سليفا بلاث وداليدا وما راودها من السيناريوهات المُستلهمة لنهاية الشخصيتين، وما يشدُ انتباه في روايات الكاتبة منصورة عزالدين هو بنية الحلم والإحالات المُتتابعة إلى كتاب "تفسير الأحلام" لابن سيرين.وما يوميءُ إليه ذلك التكرار بأنَّ صوت الكاتبة مهما كان متوارياً في طبقات صوتية للشخصيات الروائية فقد يتسربُ إلى سطحِ النص.إجمالاً من بين ماتهدفُ إليه الكتابةُ هو إعادة صياغة العلاقة مع هذه الشخصيات والعناوين أو استنكاه شكل التواصل مع أطيافها الغامضة.
قلق الاستئناف
يذكر أنَّ مشروع الكتابة أصبحَ ضمن شبكة المواضيع التي تتناولها الرواية الجديدة فبطلة رواية ماوراء الفردوس سلمى تتابعُ قراءة " الحب في زمن الكوليرا" بالتزامن مع تحديد خطوط للرواية المُستوحاة من سيرة أسرتها والأهم من ذلك أنَّ سلمى لاتكتفي بترشيح النصوص التي يراها مناسبة للنشر إنما يعجبها التدخل بالتعديل والصياغة للمواد التي تصل إلى صفحة أسبوعية خاصة بكتابات إبداعية.ويسعُ خطُ السرد للتعبير عن قلق الكتابة. إذ يعلن الراوي العليم بأنَّ المحررة بالصفحة الإبداعية ما إنَّ تبدأ بكتابة روايتها حتى تجدُ نفسها في مأزق حقيقي وتلاحظُ بأن كلماتها تفقد معناها وتتحول إلى جثث مرصوصة بجوار بعضها البعض.وهذا القلق لايخلو منه أيضاً عالم الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف مشيرةً على لسان شخصية رواية "أمس" إلى الاختبار الأصعب وهو الكتابة بغير لغة الأم كما أن ساندرو الذي يقيم لاجئاً في المنفى يريدُ الاكتفاء بالكتابة داخل رأسهِ لأنَّه حينَ يشرع بالكتابة فعلياً تتناثر الأفكارُ وتصيرُ الأشياء بغير صورتها الذهنية والسببُ وراء ذلك اللغط يعودُ إلى مكر اللغة حسب رأي الساردِ.لايصحُ النظرُ إلى هذا المنحى المتوتر من زاوية مفهوم الميتا سرد فحسب.لأنَّ الصراع مع اللغة والبحث عن الشكل الإبداعي يثيرُ قلق الكاتب وهو يهمهُ التلويحُ بما يعتملُ في تكوينه النفسي والذهني خلال الزمنِ الذي يستغرقه تفصيل القماشة الإبداعية. فمن الواضح أنَّ المادة المكتوبة تؤثر على صاحبها قبل أن ينضحَ تأثيرها في ذهنية القارىء. يقولُ موريس نادو بأنَّ الرواية التي لاتتركُ أثراً سواء في الكاتب أم في القارىء ستكون رقما إضافيا في الكمية دون النوعية.فعلاً من سلسلة الروايات التي ينكبُ عليها القارىء قد لا يتذكرُ إلا تفاصيل واحدةٍ منها وبالتالي أشباح شخصياتها الغرائبية لا تغادرُ أفق تفكيره وهذا ما تحققه رواية "الحمامة" للألماني باتريك زوسكيند فإنَّ بطلها الضد جوناثان بيل يكسرُ جليد الرأس بطبعه الغريب ورغبته للمجهولية والتواري.مما يؤكدُ بأنَّ هاجس الاختفاء كما الشهرة يلازم المرءِ بل يكون مدعاةً للجدل أكثر من الحسِ الاستعراضي. صحيح أنَّ عدد الشخصيات التي يتعرف عليها القارىء في الروايات قد يفوق نسبة الأشخاص الذين يصادفهم في الواقع لكن مايكون بمواصفات جوناثان أو ميرسو أو سعيد مهران أو زوربا دائما حظه أوفر في ذاكرة القُراء بقطع النظر عن التباين في خلفياتهم المعرفية. لا شكَّ إن الشخصيات الروائية تعكسُ جانباً من الهموم الفكرية والحياتية التي تقع على مرمى أنظار الروائي.يعتقدُ أرنستو ساباتو بأنَّ أي كاتبٍ لايمكنه خلق شخصية أعظم منه.وإذا كانت مُستقاةً من التاريخ فهي تأخذ الشكل الذي يوافق رؤيته،ويناسبُ واقعه.أياً يكن الأمر فإنَّ أرضية الكتابة مسكونة بالقلق الناجمِ من البحث عن آليات الاستئناف.والكاتب الذي ينقطع عن ممارسة المهنة هو يضمرُ الجنون في أعماق نفسه على حد تعبير سكوت فيتزجيرالد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأمن الوطني يُحصي نتائج عملياته خلال العام 2024

إيران: مقاومة جديدة ستظهر في سوريا لمواجهة إسرائيل

جامعة القاهرة ترشّح فيروز لأرفع جائزة مصرية

"أبو قصرة" وزيرا للدفاع في سوريا

البصرة تعلن يوم الخميس المقبل عطلة رسمية

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

حول قلق الكتابة

موسيقى الاحد: الموسيقى الشعبية أصداء العصور القديمة

في التفريق بين التسجيل والتخييل

الحقيقة الصادمة في رواية "تاريخ المرايا"

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري

مقالات ذات صلة

د. هادي النجار: المكان يعبر عن شخصياتي التي أود التقاط الصور لهم
عام

د. هادي النجار: المكان يعبر عن شخصياتي التي أود التقاط الصور لهم

حاوره: علاء المفرجي ولد الفنان الفوتوغرافي د. هادي النجار في مدينة كربلاء في بيئة دينية بحت. والمصادفة قادته إلى فن الفوتوغراف حين أهدته والدته كاميرا بسيطة. نما لديه حب التصوير وراح يسبر أغواره. قرأ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram