لطفية الدليمي
احتفالاتُ أعياد الميلاد ورأس السنة في بغداد كان لها طعمٌ لا يُنسى في خمسينيات وستينات وسبعينيات القرن الماضي. كانت احتفالياتٍ جمعيةً مميزة تملأ قلوب البغداديين والعراقيين بفرح وصخب وبهجة ورغبة في عيش حياة جميلة وتوقّع كلّ ما يُفْرِحُ قلب المرء. الجميع كان مدعواً لهذه الإحتفاليات من غير استثناءات إلّا من شاء أن يحجب الفرح عن قلبه. كانت تلك الأيّامُ (عندما كنّا بشراً) كما عبّر منشور فيسبوكي لبغدادي حقيقي رأى الكثير من مباهج العالم؛ لكنّ قلبه ما زال يختزنُ حنيناً لتلك الأيام الجميلة.
عشتُ مع عائلتي لعقود عديدة جانباً من تلك المباهج التي تكادُ تُحيي الموتى من فرط فعلها في قلوبنا وأرواحنا، وهي ما صارت بتلك الشدّة والعظمة إلّا لأنّها كانت حقيقية نابعة من القلب من غير استعراضات فلكلورية نردّدُ فيها كثيراً أنّ المسيحيين مكوّنٌ أساسي وأصيلٌ في المجتمع العراقي. هل اكتشف السياسيون أو اللاعبون بالسياسة هذه الحقيقة اليوم؟ ما قصّة المكوّنات التي يريدون لنا تصديقها؟ منذ أن دخلت مفردة (المكوّنات) في الدستور العراقي والسياسة العراقية والعراق ليس بخير. في العقود الجميلة التي سبقت كانت الأفعال هي التي تحكي بعيداً عن الخطب والكلمات المنمّقة. حتى برامج التلفاز ذي القناة الواحدة كانت تُخصّصُ لأعياد الميلاد. اليوم ليس بيننا من يشعر بتلك النشوة الرائعة. يبدو الأمر وكأنّه إسقاطُ فرضٍ لبضع ساعات أو أيّام.
نعرفُ أنّ الحكومة، أيّة حكومة، في كلّ شكل سياسي سواء كان برلمانياً أو رئاسياً يجب أن تعمل بتناغم وتوافق بين واجهاتها التنفيذية حتى يكون لسياساتها المعلنة مصداقية حقيقية. هل أنّ المحافظين مع مجالس محافظاتهم يعملون من غير تنسيق مع الحكومة الاتحادية؟ ما معنى أن يذهب رئيس الحكومة الاتحادية ليحضر قدّاساً في كنيسةٍ عشية عيد الميلاد، ثمّ ينتشر في الوقت ذاته فيديو يظهر فيه محافظ كربلاء وهو يتوعّدُ من ينصبُ شجرة الميلاد؟ يذكر العراقيون ما فعله المحافظ ذاته السنة السابقة عندما أطاح بشجرة ميلاد كبيرة في فعل لا ينمُّ عن سلوك حضاري فضلاً عن تناقضه مع وعود المسؤولين الحكوميين ابتداء من رئيس الوزراء. هل الكلام هو محضُ هواء يتبدّدُ في فراغ من غير سياسات حقيقية؟ ظهر المحافظ وهو يملي توجيهاته لثلّة من الشباب بضرورة قمع أية مظاهر احتفالية لأعياد الميلاد ورأس السنة. بعد إكماله إملاء توجيهاته الصارمة راح يقبّلهم واحداً بعد الآخر وكأنّهم ماضون لخوض موقعة حربية فاصلة. أطاح المحافظ بكلّ ما قاله رئيس الوزراء من كلام جميل في كنيسة مار يوسف.
نعرف حُجّة المحافظ: الحفاظ على قدسية المدينة وخصوصيتها الدينية. ألم يسأله أحدٌ مستفهماً: وهل تتقاطع احتفاليات ميلاد المسيح مع قدسية كربلاء؟ كيف يفهم محافظ المدينة هذا التقاطع المفترض؟ يقول المحافظ في مقطع من الفيديو التسجيلي له (لا نريد أن نكون ملكيين أكثر من الملك). مَنْ هم الملكيون الذين قصدهم؟ سنسمعُ قصائد طويلة وعريضة عن الاختراق الثقافي من بوّابة الإحتفاليات والرموز المستخدمة فيها؛ لكنّ الحقيقة أنّ المحافظ وكلّ العراقيين معه مخترقون ثقافياً وتقنياً وعلمياً واقتصادياً. هذا واقع حال لا يمكن نكرانه. يترك المحافظ كلّ هذه الاختراقات ويذهب لفعالية بريئة فيستخدم صلاحياته لقمعها. أهكذا تكون المروءة؟
لا أظنّ المسيحيين في حاجة لبضع أشجار ميلاد سيطيحُ بها محافظ آخر؛ لكنّ خوفنا أن يفهم المسيحيون العراقيون فعل المحافظ وكأنّه رسالة كراهية مختزنة في النفوس والقلوب تنتظر من ينكأ غلافها لتندلق على الملأ.
الكلمات الطيبة مطلوبة؛ لكنّها لن تكون أكثر من فلكلور ساذج تكذّبهُ الأفعال على الأرض متى ما تناقضت الأفعال مع الكلمات.