بغداد – تبارك عبد المجيد
في الزنزانات الضيقة داخل السجون العراقية، تعيش النساء مع أطفالهن في ظروف قاسية. الجدران الباردة تجسد معاناتهن، ومشاعر الحزن والإحباط تتناثر بينهن. الأوضاع في السجن خانقة مع الاكتظاظ الشديد، ما يجعل الحياة هناك غير قابلة للتحمل. وما يزيد من قسوة الأيام هو الانتهاكات المتعددة التي يتعرضن لها، خاصة انتهاك الخصوصية مثل الفحص القسري للعذرية، الذي يُجرى بحجة التأكد من سلامتهن الجسدية.
هذا الإجراء المتكرر يسبب معاناة نفسية وجسدية بالغة، ويعمق الإهانة التي يشعرن بها في كل لحظة. بينما تعاني الأمهات، يكبر أطفالهن في بيئة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الصحية، في ظل غياب الرعاية الطبية والتغذية السليمة.
تعاني النساء في السجون من انتهاكات قاسية ومتعددة الأوجه، تجسد واقعًا مؤلمًا من المعاملة غير الإنسانية والظروف القاسية التي يواجهنها خلف الأسوار. وفقًا لعمر العلواني، رئيس مؤسسة "حق" لحقوق الإنسان، فإن هذه الانتهاكات تتنوع بين اكتظاظ السجون، وسوء المعاملة، وانتهاك الخصوصية، مما يجعل حياة النزيلات مليئة بالمآسي التي تزيد من جراحهن النفسية والجسدية.
يشير العلواني، إلى أن "السجون النسائية، التي غالبًا ما تكون صغيرة وغير مجهزة بشكل كافٍ، تعاني من اكتظاظ خانق. هذه السجون، المصممة دون مراعاة للتهوية المناسبة أو احتياجات النزيلات، تصبح بيئة غير صالحة للحياة الإنسانية، حيث تضيق الغرف المزدحمة بالنساء اللواتي يُتركن يواجهن أوضاعًا صحية سيئة وضغوطًا نفسية متفاقمة".
ولم تتوقف المعاناة عند الاكتظاظ، بل تتعداها إلى الانتهاكات اللفظية التي تُمارس ضد النزيلات. تروي شهادات عن تعرّضهن لتجاوزات لفظية مهينة من قبل بعض الحارسات أو الباحثات الاجتماعيات، حيث يتم التعامل معهن بطرق تقلل من كرامتهن، وتعكس نظرة دونية ومجحفة. هذا النوع من السلوك يشوه إنسانيتهن ويزيد من شعورهن بالعزلة والإهانة، يضيف العلواني.
وعن أكثر الانتهاكات المؤلمة والمثيرة للجدل هو إخضاع النساء لفحص العذرية القسري. يوضح العلواني أن هذا الإجراء يُطبق عند نقل النزيلات بين مراكز التحقيق والمحاكم أو المؤسسات السجنية، بذريعة التأكد من عدم تعرضهن للاغتصاب. ولكن هذا الفحص، الذي يُجرى في كثير من الأحيان بواسطة رجال، يتحول إلى مصدر جديد للمعاناة والإذلال. في بعض الحالات، يتم إجراء هذا الفحص بشكل متكرر، يصل إلى مرتين يوميًا، مما يضاعف من الصدمة النفسية والجسدية التي تعيشها النزيلات.
وصف العلواني هذه الممارسة بأنها "فصل مسكوت عنه" في سجل الانتهاكات التي تُرتكب بحق النساء السجينات، مشددًا على أنها ليست فقط انتهاكًا صارخًا لخصوصيتهن، بل أيضًا جرحًا لكرامتهن الإنسانية يُضاف إلى معاناتهن اليومية.
وفي ظل هذه الأوضاع، طالب العلواني الجهات المسؤولة بالتدخل الفوري لإيقاف هذه الانتهاكات، داعيًا إلى ضرورة الالتزام بالمعايير الدولية في معاملة السجينات. وأكد أن "الاهتمام بهذا الملف أمر ملحّ، حيث يتم تبرير ممارسات غير مقبولة مثل فحص العذرية بذريعة حماية النزيلات، بينما الحقيقة هي أن هذه الممارسات تمثل انتهاكًا لحقوقهن الأساسية وتعبيرًا عن غياب العدالة الإنسانية".
من جانبه، يقول المتحدث باسم وزارة العدل، احمد اللعيبي إن" الوزارة تولي اهتماماً خاصاً بأقسام النساء في المؤسسات الإصلاحية، سواء كانت نزيلات عراقيات أو أجنبيات". وأوضح في حديث خص به "المدى"، أن "أعداد النزيلات تتراوح ما بين 1000 إلى 2000 نزيلة، من جنسيات مختلفة، وبعقوبات ومدد محكومية متنوعة، مع مراعاة التصنيف حسب الخطورة مثل القتل والإرهاب.
وأشار إلى أن الوزارة تواجه تحديات كبيرة بسبب الاكتظاظ في الأقسام الإصلاحية، حيث تبلغ نسبة الاكتظاظ حوالي 300% في بعض الأقسام، وهو ما دفع الوزارة إلى بدء بناء أقسام إصلاحية جديدة وتوسيع الأقسام الحالية لاستيعاب الأعداد المتزايدة، بما في ذلك تخصيص مساحات إضافية للنساء.
كما أوضح أن هناك العديد من الأطفال المصاحبين لأمهاتهم من جنسيات مختلفة، مثل الأفريقية والعربية، والذين وُلدوا داخل السجون. وأضاف أنه تم تشكيل لجنة برئاسة وزير العدل وعضوية الوكيل الأقدم للوزارة ومستشار رئيس الوزراء لحقوق الإنسان، بهدف إبرام اتفاقيات ومذكرات تعاون مع البلدان المعنية.
وأكد اللعيبي، أن "الوزارة ستنسق مع وزارة الخارجية وسفراء الدول المعنية لاستلام الأطفال وتوفير الحلول المناسبة لمستقبلهم.
تتباين أسباب اعتقال النساء في العراق باختلاف الظروف الاجتماعية والجغرافية، كما يوضح شوان صابر مصطفى، رئيس مجلس إدارة شبكة العدالة للسجناء، إلا أن "الفقر المدقع، الذي يُجسد في جرائم مثل التسول، يُعد الأكثر شيوعًا بين النساء. تعكس هذه الجرائم هشاشة شبكات الأمان الاجتماعي وتفاقم الأوضاع الاقتصادية. في السنوات الأخيرة، ظهرت جرائم المخدرات والخيانة الزوجية والدعارة على نحو متزايد، ما يُبرز تدهور البيئة الاجتماعية والاقتصادية.
ويشير شوان إلى وجود نقص خطير في البرامج التأهيلية والنفسية داخل السجون، مما يحول دون إصلاح سلوك النزيلات أو مساعدتهن على إعادة الاندماج في المجتمع. يُعزى هذا النقص إلى قلة الكوادر المؤهلة، حيث يكون لكل ألف سجين تقريبًا باحث اجتماعي واحد، ما يخلق فجوة كبيرة في تقديم الدعم اللازم. يؤدي الاكتظاظ الهائل داخل السجون إلى تفاقم هذه المشكلة، حيث تصبح الإصلاحيات بيئات تعوق الإصلاح بدلاً من أن تسهم فيه.
يُبرز شوان مأساة الأطفال الذين يعيشون مع أمهاتهم في السجون، حيث تُجبر المحاكم على إبقائهم مع أمهاتهم استنادًا إلى مبدأ "مصلحة الطفل الفضلى". ولكن هذه المصلحة تُنتهك بشكل صارخ في ظل غياب الأساسيات مثل الطعام الصحي والرعاية الطبية والملابس. اذ يعيش هؤلاء الأطفال ظروفًا مأساوية، في زنازين ضيقة وغير صحية، ويقتاتون على طعام لا يكفي حتى للكبار.
ويُضاف إلى هذه المعاناة التشتت الإداري بين الوزارات المسؤولة عن إدارة السجون، مثل وزارات العدل والداخلية والعمل والشؤون الاجتماعية، فضلاً عن الأجهزة الأمنية في إقليم كردستان. يعيق هذا التشتت تقديم الخدمات الضرورية للنزيلات وأطفالهن ويُفاقم من مشكلات السجون، مثل نقص التمويل والضعف الحاد في البنية التحتية، التي لا تلبي احتياجات العدد المتزايد من السجناء.
يتابع الحديث: "تقوم المنظمات المحلية والدولية بدور أساسي في تسليط الضوء على هذه المآسي وتقديم مساعدات طارئة، تشمل الأدوية والحليب والملابس للأطفال، بالإضافة إلى توثيق الانتهاكات ودفع السلطات لتحسين الأوضاع. ومع ذلك، تبقى هذه الجهود غير كافية ما لم تُتخذ خطوات جذرية تشمل تعديل القوانين لتوفير بدائل عقابية مثل العمل المجتمعي بدلاً من السجن للجرائم غير الخطيرة، وتحسين التنسيق بين الجهات المسؤولة عن إدارة السجون".
يطالب شوان بضرورة اتخاذ تدابير عاجلة لتحسين أوضاع السجينات وأطفالهن. تشمل هذه التدابير توفير ميزانيات كافية للرعاية الصحية والغذائية، إلى جانب تحسين البنية التحتية للسجون. كما شدد على أهمية تعديل القوانين لحماية حقوق النساء والأطفال وتعزيز دور المحامين لضمان عدالة الإجراءات القضائية.
من جانبه، يحذر د. علي البياتي، رئيس منظمة "استختنك دفندرز" لحقوق الإنسان، من أوضاع مقلقة للغاية في مراكز احتجاز النساء في العراق، حيث تتفشى انتهاكات حقوق الإنسان بشكل منهجي. وأشار البياتي إلى تقارير عديدة تفيد بوجود احتجاز غير قانوني، وسوء معاملة، وتعذيب، بما في ذلك التهديد بالاعتداء الجنسي، في ظل غياب الرقابة والمساءلة.
أوضح البياتي لـ "المدى"، أن "العديد من النساء يقبعن في السجون لشهور أو حتى سنوات دون توجيه تهم رسمية أو المثول أمام القضاء. وتُقدّر الإحصائيات عدد النساء المحتجزات في السجون ومراكز الاحتجاز العراقية بأكثر من 1000 امرأة، يعاني معظمهن من انتهاكات جسيمة أثناء فترة الاحتجاز".
ويشير إلى، أن "النساء المحتجزات يتعرضن لضغوط نفسية وتعذيب جسدي، بما في ذلك الضرب، والصدمات الكهربائية، والتهديد أو الاعتداء الجنسي أثناء جلسات الاستجواب. كما تستند العديد من الإدانات إلى اعترافات انتُزعت بالإكراه أو تحت وطأة التعذيب، مما يثير مخاوف جدية حول نزاهة الإجراءات القضائية في العراق".
أكد البياتي أن غياب الرقابة عن مراكز الاحتجاز يؤدي إلى تفاقم الانتهاكات، حيث لا توجد آليات فاعلة للتحقيق أو محاسبة المتورطين في جرائم التعذيب وسوء المعاملة. "المساءلة تكاد تكون معدومة"، يقول البياتي، مضيفًا أن نظام العدالة الجنائية في العراق بحاجة ماسة إلى إصلاح شامل لضمان احترام حقوق الإنسان وتحقيق العدالة.
في ظل استمرار الاكتظاظ وضعف الخدمات الأساسية، تبقى معاناة النساء والأطفال داخل السجون العراقية بعيدة عن الحل. هؤلاء الأطفال، الذين يكبرون في بيئة السجون، ليسوا مجرد أرقام، بل ضحايا لمجتمع لم يوفر لهم الحماية اللازمة. الحاجة إلى إصلاحات جذرية وفعالة أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، فالمجتمع الذي لا يستطيع حماية أضعف حلقاته هو مجتمع محكوم بمزيد من الانهيار.
فحص العذرية في سجون النساء.. فصول مسكوت عنها
دعوات إلى إصلاح شامل لحماية حقوق المرأة والطفل
نشر في: 29 ديسمبر, 2024: 12:09 ص