د. نادية هناوي
ثمة أسئلة كثيرة تستدعي التحديد المفاهيمي لماهية السرد التسجيلي من قبيل: كيف نميز هذا النوع من السرد عن غيره؟ وهل يكون موقف كاتبه من التاريخ الرسمي كموقف كاتب السرد التاريخي ؟ متى يُكتب السرد التسجيلي أ خلال حصول الأحداث الاستثنائية أم بعد انقضائها؟
لقد حدد بعض النقاد سمات فينة، أرادوها مخصوصة بهذا النوع، لكن الفاصل بين التسجيل والتخييل ما يزال غير واضح الأبعاد. فدلالة الفعل سجَّل تعني تقييد الأحداث والوقائع وإشهارها بقصد الإقرار بها والحكم لها أو إدانتها من خلال سجلات لا يتنازع أحد على وثائقيتها. وليس شرطا أن يكون التسجيل محفوظا تحريريا في وثائق وقوائم وبيانات ورقية أو رقمية، بل يمكن أيضا أن يكون مسموعا( أصوات مسجلة في أشرطة) ومرئيا( صور وأفلام وبرامج محفوظة داخل ألبومات واسطوانات وسيديهات) منها يستمد كاتب الرواية مادته التسجيلية مضيفا إليها التخييل السردي، فيشترك الفعلان معا التسجيل والتخييل في المعطى الوظائفي للرواية.
والإشكال النقدي في دراسة الرواية التسجيلية يتمثل في النظر إليها شكلا سرديا حينا وجنسا أدبيا حينا آخر فضلا عن الخلط بينها وبين الرواية التاريخية. فتجد الكاتب يصنِّف روايته التي تتناول أحداثا وقعت في حقبة سياسية معاصرة بأنها تاريخية أو تجده يرصد أحداثا وقعت مجرياتها في النصف الأول أو الثاني من القرن العشرين مستندا إلى وثائق ومخطوطات ونشرات إخبارية وإحصاءات ثم يصف ذلك كله بأنه رواية تاريخية.
ولن نغالي إذا قلنا إن السبب وراء ذلك يتمثل في الافتقار إلى خلفية معرفية وفلسفية في الوعي النقدي بالفاعلية السردية. وإذا كان الروائي الغربي قد أفاد من اتجاهات الفلسفة التاريخية المعاصرة -لاسيما الاتجاه الذي يرى التاريخ سردا - فمارس التنظير السردي جنبا إلى جنب الكتابة الروائية ممتلكا وعيا نظريا، يفلسف من خلاله نظرته الخاصة لعلاقة التاريخ بالسرد، فإن الروائي العربي كان في الغالب مكترثا بالكتابة الواقعية والتاريخية غير معتن بالتنظير النقدي ولا بفلسفة آرائه ومنظوراته باستثناء عدد قليل جدا، امتلك هذا الوازع بالجمع بين السرد والنقد. ولأجل تمييز الرواية التسجيلية عن نظيرتها التاريخية، فإننا نعد الوقائعية سمة من سمات الرواية التسجيلية فهي لا تكتب إلا حول واقعة استثنائية وغير معتادة، لها من الهول وثقل الوطء ما يجعلها تعيش في الذاكرة فلا تنسى، وتتعايش مع الحياة التي على الرغم من تبدلها، فإن مرور الجيل والجيلين لا يزيد الواقعة إلا ثباتا بسبب خصوصيتها وأهميتها غير الطبيعية. أما الاختلاف وتفاوت وجهات النظر حولها، فيجعلها مدار الحديث باستمرار فتتقاطع الرؤى وتتباين الغايات. وبالاستناد إلى التقاطعات والتباينات، يكون كاتب الرواية التسجيلية قد وجد المسوغ الكافي لأن يتتبع الواقعة في جانبها الوثائقي المحدد جغرافيا بمدينة أو إقليم، مستعينا بالمتخيل السردي وليس المتخيل التاريخي، أولا لأن الأحداث السردية حاضرة في الوعي الجمعي وثانيا تنتمي إلى زمان فيزيقي تستذكره الاجيال أي أن آثاره المرعبة أو الخطيرة ما تزال سارية المفعول ومختلف حولها حتى في عرف المعنيين بالتوثيق لحياة الأفراد والجماعات.
وفي التاريخ العربي المعاصر، وقائع بعينها هي غير اعتيادية في آثارها ولا مسبوقة في مؤثراتها وقوية في أهوالها. ولهذا صارت مادة لكتابة الرواية التسجيلية من قبيل نكبة 1948 وثورة 1952 في مصر وثورة 1958 في العراق ونكسة حزيران والحرب الأهلية في لبنان وتصفية عناصر الحزب الشيوعي في العراق والحرب العراقية الإيرانية.. الخ.
وقد يقال إن ما كتبه الروائيون العرب عن هذه الوقائع يدخل في صنف الرواية الواقعية. بيد أن الرواية الواقعية لا توظف الأحداث من منظور وقائعي غايته التوثيق، بل هي تدع المتخيل السردي يسرح حرا لا تقيده أية محددات بعكس الرواية التسجيلية التي تتقيد بالواقعة فيكون التوثيق مطلبا رئيسا يزامنه التخييل السردي عبر اختلاق شخصيات أو أحداث لا تخرج عن حدود الوقائع والنقل مما تختزنه الذاكرة الجمعية من تفاصيل اليومي المعيش ضمن أمد زماني وحدٍّ مكاني معرَّفين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكتابة التوثيقية أوسع من الكتابة السيرية؛ لأن المجموع هو المقصود وليس الذات. ولأن المزامنة الواقعية للتفاصيل حاصلة ويعايشها كاتب الرواية التسجيلية واقعيا حتى وإن لم يعاصرها على الحقيقة، يساعده التخييل في استنطاق ما هو عابر ومهمل من تفاصيل تلك الواقعة.
ولا فرق إن كان السارد ذاتيا يشارك بوصفه شاهدا في الأصل أو بوصف السارد محايدا يؤدي دور المراقب فلا يترك شاردة وواردة إلا ويدونها لحظة بلحظة. وهذا ما لا ينطبق على الرواية الواقعية التي فيها السارد أما مشارك لكنه ليس بالضرورة هو الشاهد /المؤلف وإما غائب وموضوعي فلا يشترط أن يكون مراقبا وإذا اضطر للمراقبة فانه يستعمل عين الكاميرا. هذا إلى جانب أن الرواية الواقعية - مهما كانت دراماتيكية أحداثها محتدمة- تبقى في تجلياتها الثيماتية لا نهائية لأنها غير مخصوصة بزمان وقائعي واحد ولا مشروط فيها أن تدور في حيز مكاني محدد.
ومثالنا على الوقائعية رواية( تحت سماء داكنة) للكاتب جهاد مجيد وفيها تكون الأحداث في المنطلق والمنتهى محددة بالزمن الفيزيقي لواقعة تصفية اليسار العراقي بين عامي 1978 و 1979، عاشها ساردها الذاتي بحذافيرها فدوَّن تفاصيل اختبائه عن أنظار السلطة ومغامرات ممارسته العمل الحزبي سرا، عاكسا من خلال ذلك كله معاناة أقرانه الذين عاشوا أتون هذه الواقعة وكانوا حطبها. وتدل التوطئة في مفتتح الرواية على قصدية التسجيل الوقائعي( كتبت هذه الرواية في ميدان أحداثها الدامية التي عاناها التقدميون واليساريون والشيوعيون في العراق جراء الحملة الفاشية التي شنها عليهم نظام القهر والاستبداد أواخر سبعينات القرن الماضي) واستعمل الكاتب ضمير الأنا بوصفه شاهدا وأعطى لنفسه اسم سعدي وساندته شخصية ثانوية اسمها هدى، هي في الحقيقة زوجته التي إليها أهدى الرواية( قضينا أياما في بيت خالي ضيوفا مرغوبا فيهم كان له بعض العلم بما يجري فسألني فيما إذا كان ثمة خطر عليَّ، فنفيت ذلك له لم أرد توسيع دائرة من يعرفون بوضعي ولست أعرف مدى شجاعته في مثل هذه الأمور).
وأكثر التقانات استعمالا في تسجيل الواقعة الاسترجاع ومن خلاله يستذكر السارد أحداثا بعينها فيشبعها سردا من قبيل انتمائه الحزبي أو قيامه بالعمل السري أو القبض عليه. ويستعمل أحيانا تقانة الاستباق كي يرسم صورة لما واجهه في المعتقل من تعذيب نفسي وإيذاء جسدي، مستعملا في سبيل التعبير عن ذلك تقانات تيار الوعي كالمنولوج الداخلي والتداعي الحر والمناجاة النفسية والمنتجة الزمكانية.
وإذا كانت ( تحت سماء داكنة) قد كُتبت في خضم الواقعة فكان السارد شاهدا، فإن رواية (صوت الطبول من بعيد) لفلاح رحيم قد كتبت بعد زمن طويل من حصول الواقعة وهي الحرب العراقية الإيرانية. وتبدأ الرواية من تسريح البطل سليم من الخدمة الإلزامية في تموز 1980 وتنتهي عند الأعوام الأولى من هذه الحرب. وتتضح الوقائعية من الإهداء كأول متعالق نصي( إلى حسين الذي قتلته الحرب العراقية الإيرانية في السادسة والعشرين وكنت يومها اصغر بعامين وبينما أصارع الهرم يبقى هو فتيا إلى الأبد) وتتجلى النزعة التوثيقية في متن الرواية في التأكيد على تقييد الأحداث زمانيا( كان الخامس من تموز عام 1980 هو موعد الانعطافة التي طال انتظارها) أو قوله( كان أول لقاء بينهما عام 1964..) أو ( الاثنين 1/6/1981 منذ وصلا هذا المكان قبل أكثر من أسبوع ونحن نحاول دخول نمطه الخاص..) ويستمر التعداد إلى الخميس 2/7/1981.
وسيكمل الكاتب فلاح رحيم تسجيل واقعة الحرب في روايته( الشر الأخير في الصندوق) وتبدأ وقائعيتها من العام 1983 وبطلها سليم أيضا وتوثق أحداثها الحياة المدنية والعسكرية في العراق. ويعمل التحديد الزمني الفيزيقي على جعل التخييل مقيدا بالتسجيل فلا يسوح السارد في الأمكنة والأزمنة إلا وهو مشدود بخيط الواقعة من دون أن يتمكن من الإفلات منه البتة.