ستار كاووش
كي تجد لك مكاناً خاصاً، عليكَ أن تمضي خارج السرب، باحثاً عن أرض تناسب أفكارك وتطلعاتك، وتُحاول أن تجد الأدوات التي تدعم هذه الأفكار وتُحولها الى حقيقة ملموسة. وهذا ما فعله الفنان النمساوي هاندرتفاسر الذي زرتُ اليوم متحفه العجيب والجميل وسط مدينة فيينا، حيث لم يكتفِ هذا الفنان الساحر ببناء عالمه المتفرد، بل حتى هذا المتحف بناه بنفسه، والذي إجتمعتْ فيه كل فلسفته الفنية في العمارة والرسم والتصميم واستخدام خامات مختلفة في البناء. ليتحول هذا المتحف مع مرور الوقت الى أحد الأماكن الساحرة في العالم، حيث يضم أكبر مجموعة من لوحاته. ومثلما خالفَ هاندرتفاسر كل التقاليد الفنية ورسم كل لوحاته على الأرض دون إستخدام حامل اللوحات، فقد صنع الكثير من ألوانه بنفسه كي تقاوم الزمن والظروف الطبيعية. وهكذا لا شيء يتوقف أمام طموحات هذا الفنان وإندفاعاته التي غيرت الكثير من نظرتنا للفن بشكل عام والرسم بشكل خاص.
فما الذي جعل هذا الفنان متفرداً ورائداً ومؤثراً الى هذا الحد؟ أهيَ الجرأة والطموح؟ أم الإختلاف والمغايرة؟ أم هي الحرية التي فتحها على مصراعيها مثل باب كبير؟
دخلتُ الى متحفه من خلال بوابة حجرية ملونة يسندها عمودان غير منتظمي الشكل، وما أن إجتزتُ البوابة حتى إلتمعت من بعيد يافطة كُتبَ عليها بلون أخضر (بيت فيينا للفن) وهو العنوان الذي إختاره لمتحفه. باحة كبيرة بين البوابة ومدخل المتحف قد تحولتْ الى مقهى واسعة تستقبل الزائرين، إنتشرت فيها طاولات وكراسي تم طلائها بالأزرق والأصفر كي تتلائم مع ألوان وتكوينات المكان. تجولتُ بين عالم هذا الفنان الممتع والاستثنائي ولوحاته التي نفذها بمواد مختلفة، إضافة الى المواد والتقنيات العديدة التي إبتكرها لتناسب أعماله. فإضافة للألوان الزيتية والمائية، إستعمل هاندرتفاسر التيمبرا والورنيش وحتى البيض وبعض أنواع التراب المطحون، وأضافَ لها بعض المعادن ورقائق صغيرة من الخشب، كذلك الألوان الذهبية والفضية، وهو لم يرسم على لوحات جاهزة أبداً، بل على القطع التي يختار قياساتها بنفسه، سواء كانت من الكانفاس، الخشب والورق، ويبقى ورق التغليف المستعمل هو أفضل خيار يرسم عليه لوحاته، والذي يلصقه أحياناً على الكانفاس أو الخشب بعد الانتهاء من الرسم. وكان حريصاً على كتابة تفاصيل كل لوحة وتاريخ إنجازها على خلفيتها. إشتهر هاندرتفاسر كونهُ لا يملك مرسماً ثابتاً، بل كان يرسم لوحاته في أي مكان يتواجد فيه، سواء وسط الطبيعة، عند الأصدقاء، الفنادق، القطارات، الطائرات، المطاعم، والمقاهي أو على ناصية الشارع. وما عليه سوى أن يفرش ورقته أو قطعة الكانفاس في المكان الذي هو فيه، والبدء في الرسم، وإن كانت الأعمال ذات حجوم كبيرة، فهو كان يطويها بهيئة رول، ويبدء بالرسم تدريجياً على كل جزء يظهر أمامه. وفى أحيان كثيرة كان يترك بعض أعماله غير المكتملة في الفنادق كأمانة، وعند عودته مرة أخرى يكمل رسم هذه اللوحات.
تنقلتُ بين لوحات المتحف التي تداخلتْ فيها الخطوط والدوائر والقباب والوجوه التي تحولت الى حقول وحدائق، حيث يتضح إنبهاره بجماعة الإنفصاليين كذلك تأثره بالزخارف والفسيفساء العربية، ووظف ذلك مع رؤيته الشخصية وأشكاله الحلزونية والمتموجة وخطوطه غير المنتظمة، وهنا يبدو كأنه طفل يعبث بالألوان ويرسم مناظر طبيعية تحيطها البيوت. وهو يقول حول أشكاله وخطوطه المتموجة (نحن نعيش اليوم في فوضى من الخطوط المستقيمة)، وقد إنعكسَ هذا أيضاً على دراسته في أكاديمية فيينا للفنون، حيث تركَ الدراسة بكل تقاليدها، وسافر يجوب العالم ويكتشف أسرار الفن بنفسه.
إضافة الى إمكاناته وحلوله المختلفة، قامَ هاندرتفاسر أيضاً بإدخال تقنيات طباعية مختلفة في أعماله، وهو كان يرفض أن تُطبع أعماله بنسخ عديدة، بل وظف الطباعة بأعمال أصلية تتناسب مع فلسفته الفنية. وبسبب فرادة أعماله وأصالتها، فقد أخذت هذه الأعمال طريقها الى العديد من متاحف العالم، شرقاً وغرباً.
تعتبر الزخارف والرموز أساساً لكل أعمال هاندرتفاسر، وهي تأخذ جانبين، الأول هو إدخاله الطبيعة وتكويناتها المختلفة في أعماله والتي جعلت لوحاته تبدو مثل الحدائق المليئة يالزهور، أو مثل واجهة متجر مليئة بقطع الحلوى. والجانب الثاني هي مفردات العمارة التي توزعت بين لوحاته مثل البيوت والنوافذ والأبواب والأعمدة والجدران.
أكملتُ جولتي وسط لوحات المتحف، بألوانها التي بَدَتْ مشرقة ومتناغمة كأنها شموش صغيرة تُضيء قاعات هذا المكان الجميل، مثلما أضاءتْ قلبَ هذا الفنان الذي أثبتَ أن الفن الجميل هو تجربة شخصية تغمرها المتعة والابتكارات الجمالية، وبهذا يمكنها أن تعيش الى الأبد.