عبد الكريم البليخ
الكثير من الناس يعرفون أسماء الشعراء والكتّاب، ويحيطون علماً بتفاصيل من حياتهم الشخصية، لكنهم لا يستطيعون أن يُثبتوا أنهم قرأوا أعمالهم أو حتى أجزاء منها! في زمن أصبحت فيه القراءة ممارسة نادرة، نواجه أسئلة حاسمة حول الأسباب التي أدت إلى تراجعها، وكيفية استعادة مكانتها باعتبارها جزءاً أساسياً من حياة الإنسان وثقافته. إن الشهادة المدرسية أو الجامعية ليست دليلاً على عُمق الثقافة أو سعة الاطلاع، بل هي في أغلب الأحيان مجرد ورقة تثبت أن حاملها قد اجتاز اختبارات منهجية، بينما تبقى القراءة الحرّة والتعلم الذاتي هما مفتاح بناء الفكر الحقيقي. على سبيل المثال، قد يتخصص أحدهم في الأدب أو العلوم، لكنه يكتفي بما يطلبه المنهج الدراسي دون أن يخوض رحلة بحثية تستعرض منابع المعرفة الأصيلة وتغذي عقله وروحه.
غرس عادة القراءة ليس بالأمر السهل، لكنه ضرورة ملحّة في مواجهة تحديات العصر. القراءة ليست رفاهية أو ترفاً، بل هي نافذة على العالم، تمنح القارئ رؤية أوسع وتجعله أكثر وعياً بذاته وبمجتمعه.
لكن كيف يمكن أن تصبح القراءة جزءاً من حياة الإنسان اليومية؟
يتم ذلك من خلال بناء الدافع الشخصي، أي أن تكون القراءة نابعة من شغف داخلي، وليست استجابة لضغوط الدرس أو العمل. هذا الدافع الداخلي يحتاج إلى رعاية منذ الطفولة، حيث يُزرع حب المعرفة في النفس تدريجياً، فضلاً عن الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام، ودورها الجوهري في تعزيز ثقافة القراءة. بدلاً من التركيز على الإثارة أو الترفيه السطحي، يمكنها تسليط الضوء على الكتب المهمة، وتشجيع القراء عبر حملات جماهيرية تُبرز أثر القراءة في حياة الإنسان والمجتمع، كما يجب أن يكون للنقّاد دورٌ في فتح أبواب النصوص للقارئ العام، بحيث يقدمون الأعمال بأسلوب يشوقه ويقربه منها، دون أن يغرقه في الرموز المعقدة أو الطلاسم التي تُنفّره من المتابعة.
رغم أن المطبوعات كانت في يوم من الأيام رائدة في الترويج للأعمال الأدبية والفكرية، إلا أن دورها قد تراجع بشكل واضح. اليوم، تكتفي كثير من الوسائل الإعلامية بإجراء مقابلات مع المبدعين دون متابعة إنتاجهم أو السعي لنشره بشكل واسع. وبدلاً من ذلك، انزلقت المطبوعات نحو تقديم محتوى سطحي يسعى لإشباع حاجات آنية، مما أدى إلى ظهور فئة من القرّاء الذين يفضلون كل ما هو طريف وسريع على حساب العمق الفكري.
فهل السبب هو تغير القيم في هذا العصر؟ أم أن الضغط اليومي والثقافة الاستهلاكية قد سرقت وقت الناس وأضعفت شغفهم بالمعرفة؟
مع الأسف، نشهد اليوم انتشاراً واسعاً للكتابات السطحية التي تتسابق دور النشر على طباعتها وتسويقها، دون أن تراعي جودة المحتوى. من جهة أخرى، أصبحت تجارة الترفيه، من فيديوهات وأفلام ومجلات رخيصة المحتوى، هي الخيار الأول للكثيرين، ما أدى إلى تفاقم ظاهرة "أمية المتعلمين"؛ أولئك الذين يحملون شهادات لكنهم يفتقرون للمعرفة الحقيقية.
هذه الظاهرة أوجدت فجوة كبيرة بين الكتب الجادة والقراء، حيث أصبحت الكتب الجادة مرتبطة لدى الكثيرين بالتعقيد والملل، بينما يتهافتون على المحتوى المسطح، مثل كتب الحظ والتسلية.
القراءة ليست مجرد نشاط ثانوي يُمارس في أوقات الفراغ، بل هي حاجة أساسية لتطوير الفرد والمجتمع. عندما تصبح القراءة هاجساً داخلياً يشعر به الإنسان كجزء من كيانه، فإنها تتحول إلى عادة يومية تُثري حياته وتمنحه أفقاً جديداً.
لتكوين هذا الدافع الداخلي، يجب أن تبدأ الجهود من البيت، حيث يتم غرس حب القراءة في نفوس الأطفال منذ الصغر. الطفل الذي ينشأ في بيئة تُقدّر الكتاب والمعرفة، سينظر إلى القراءة كجزء أساسي من حياته، ولن يفصل بين كونه إنساناً وبين كونه قارئاً.
بالإضافة إلى دور الأهل، تتحمل المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية مسؤولية كبيرة في ترسيخ ثقافة القراءة. ومن بين الأدوار التي يمكن أن تقوم بها:
إنشاء مكتبات عامة جذابة، تكون نابضة بالحياة، تقدم أنشطة وفعاليات تجذب الناس من مختلف الأعمار، وتعزيز القراءة في المناهج الدراسية، بحيث لا يكفي أن تُخصص حصص للقراءة، بل يجب أن تكون هناك منهجية تُحبب الطلاب في الكتاب وتجعلهم يدركون قيمته، ناهيك بإقامة حملات وطنية للقراءة، بإطلاق مبادرات مثل "عام القراءة" أو مسابقات قراءة جماهيرية يمكن أن يخلق وعياً جماعياً بأهمية الكتاب.
القراءة ليست مجرد نشاط ترفيهي أو أكاديمي، بل هي أداة أساسية لتشكيل العقول وصقل الشخصيات. إعادة إحياء هذه الثقافة ليست مسؤولية فردية فحسب، بل هي مهمة جماعية تشمل الأهل، والمدرسة، والإعلام، والنقّاد، ودور النشر.
عندما يتحرر الإنسان من قيود الموروثات التي تُثقل خطواته، ويُدرك أن القراءة ليست خياراً بل ضرورة، ستصبح القراءة عادة متجذرة في حياته، وستتحقق بذلك النهضة الثقافية التي نطمح إليها جميعاً.