علي حسين
في مرات عديدة أعود لكتب المفكر الاقتصادي جلال أمين الذي رحل عن عالمنا قبل اعوام قليلة بعد ان اتحفنا بمذكراته الممتعة " ماذا علمتني الحياة " ، وقد تصفحت في الاسابيع الاخيرة كتابه "ماذا حدث للمصريين؟" والذي حاول ان يقدم فيه وصفاً لتحولات المجتمع المصري في نصف القرن الأخير، وقد وضع الكتاب صاحبه على سلم الشهرة الحقيقية ، وليست الشهرة الزائفة التي يبحث عنها بعض شيوخ الفضائيات الذين اخبرونا بكل "أريحية" عن حرمة الاحتفال برأس السنة الميلادية .
خلال رحلة حياته التي تجاوزت الثمانين عاما سعى جلال امين ان يملأ الأجواء الثقافية والأكاديمية بحوارات جادة تبحث في أزمة المواطن المصري، وكان كتابه أشبه بتحذير من أن الدولة الرخوة تسمح لمجموعة من اللصوص أو الانتهازيين بأن يستولوا على مقدرات الناس، ونجد صاحب كتاب "ماذا حدث للمصريين؟" يشير بوضوح إلى دور المثقف الذي ارتضى أن يُقصي نفسه عن أحداث بلاده، ويفضل عدم الانغماس في مشاكل البلاد، فتحول بعض أصحاب الرأي والقانون وبعض من يسمون بالتكنوقراط إلى فئة مستعدة لتقديم ما تطلبه السلطة، من أجل استمرار النظام السياسي.
وأنا أقرأ كتاب جلال أمين تساءلت مع نفسي "ماذا حدث لنا ابناء بلاد الرافدين ؟"، ولا أريد أن أعمم، فهناك من حاول أن يقدم نموذجاً حياً ووطنياً، ولكن هناك فئات كثيرة لا تزال تمارس لعبة "لا أرى لا أسمع لا أتكلم" ، وترفض أن تصدّق أننا نعيش عصر المهزلة السياسية بامتياز ، لكننا مع ذلك ظللنا نخرج كل أربع سنوات لننتخب "جماعتنا" ووصل بنا الأمر إلى حد أن نسكت حين خرج علينا شيخ معمم ليقول بلا حياء: "خلي يبوكون، خلي البلاد تخرب، مادام ساستنا يحافظون على المذهب"، وحين قال محمود المشهداني بالحرف الواحد: "المهم عدنا المالات وشيصير خلي يصير "، لم يحاسبه احد ، ولكن تمت اعادته ليجلس على كرسي رئاسة البرلمان .
ماذا حدث لنا ياسادة حتى يخرج علينا مستشار " مستقيل " لرئيس الوزراء يخبرنا انه كان مستشارا لمعظم رؤساء الوزراء واصبح مستشارا لاحد رؤساء البرلمان وفي اوقات الفراغ عمل مستشارا لوزير الداخلية ، ولم يكتف بذلك بل تباكى على حال الاعلام الذي يريد ان ينال من المنجزات التي تحققت بفضل استشاراته العميقة .. ماذا حدث ياسادة لهذه البلاد التي كان فيها محمد حديد مستشارا لعبد الكريم قاسم ، لنعيش اليوم مع مستشار يفقد اعصابه ويحول برنامج تلفزيوني الى وصلة من الشتائم "المقرفة "؟ ماذا حدث للمستشار حتى يفقد اعصابه ويشتم الذين يبحثون عن المال السياسي ، وهو الذي لا تزال وظيفته الاساسية : الخدمة في بلاط المال السياسي ؟ .