قيس قاسم
تَجد المخرجة والصحافية الأفغانية نجيبة نوري في والدتها حوا كلّ ما يلزم لإنجاز فيلمٍ عنها وعن بلدها، لقوّة شخصيتها، ولفطرة متأصّلة فيها، للذهاب إلى النافع، وإلى ما يُفيدها ويُفيد أبناء جلدتها. تَجد في التعليم الذي حُرمت منه في طفولتها، مدخلاً إلى خلاص المرأة الأفغانية من بؤسها، ولها فيه أملاً كبيراً لكسب معنى جديد لحياة تَبدَّد منها الكثير.
من رغبتها في تعلّم القراءة والكتابة، تدخل نوري إلى عالم والدتها، ومنه إلى التاريخ القريب لبلدها، لتروي وتوثّق سنوات قليلة سبقت وصول طالبان إلى الحكم. بعدها، تنقلب الأحوال وتتبدّد الأحلام، ويحلّ الخراب في كل ّمكان.
يأخذ "كتابة حوا" (2024)، الفائز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي)" لأفضل فيلم في الدورة الـ37 (14 ـ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)"، مقطعاً عائلياً أفغانياً، يراقب تحوّلاته، ويعتني بالأدوات السينمائية الناقلة له. الصورة (نجيبة نوري ورسول نوري) نقيّة، والحركة أمام الكاميرا عفوية. لا مكان فيها للتنظير والتحليل السياسي المتعالي. المشهد العائلي وتحوّلاته يكفيان لقول الكثير عن أفراد ومجتمع، بُنيته السياسية الفاسدة وموروثه الثقافي المحافظ يدفعانه إلى خيارات مظلمة، لا أفق لها، مُعاندوها لا يجدون أمامهم إلّا خيارين: الموت أو الرحيل.
2021: عام رحيل نجيبة القسري. بداية لحظات أولى تتسرّب من نظرتها الحزينة عبر نافذة الطائرة إلى نقلها إلى المكان الجديد الغريب، فرنسا، بين متاعها القليل في رحلتها، المليئة بالخيبة من وعود أميركية كاذبة، والحسرة على ضياع بلد، حاسوباً وشرائط خامات تصوير التقطتها في كابول. تفرش نوري تسجيلاتها أمامها لتعيد تركيب السنوات الأخيرة منها. في إحداها، والدتها في منزلها، نشطة تعتني بزوجها العجوز، المريض بخرف عقلي يُنغّص عليها حياتها. ولأنّها صوّرت بنفسها أكثر تلك الخامات، صار التوليف سهلاً عليها، ومُطيعاً لإرادتها الإخراجية. سهّل عليها إعادة قصّ مرحلة من حياة والدتها، شهدت فيها أفغانستان تحوّلات دراماتيكية، تركت جروحاً عميقة فيها، لضياع ما كانت تريد تحقيقه فيها.
أرادت تعلّم القراءة والكتابة بنفسها. تطلب من أولادها إحضار لوحة بيضاء وأقلام تكتب بها فوقها ما تتهجّاه من كلمات مرسومة في كتب مدرسية. يسبق ذلك إعلان رغبتها في العمل. تُخرج من حقائبها القديمة ما جمعته وحفظته من أقمشة خام. للتطريز والنقش عليها، تقابل عاملات مختصات، وعلى أثمان إعادة تصنيعها تتفق. تكشف تجربتها عن عقل تجاري متألّق، وروح تعاون نسوية لافتة بحميميتها. تجمع بنشاط بين تعلّم القراءة والكتابة ومشروعها التجاري بإبداع. في زمن سينمائي قصير، تتجسّد ملامح شخصية نادرة، لا تتوانى عن فعل المُفيد لها، ولا تهمل واجباً عليها.
تلعب نجيبة بذكاء دور المُحاور من دون إشعار والدتها بذلك. هذا مُتأتٍّ من توافق وصداقة تتعدّى أواصر الأمومة. تُكنّ لوقفتها معها، وإصرارها على إكمال تعليمها والعمل صحافيةً، تقديراً خاصاً لها. كانت حوا، بفطرتها، تُدرك معنى تعليم الأفغانية، وتضعه في أول اهتماماتها. تُشجّع حفيدتها الأمّية على ذلك، وتتشارك معها الشروع في تعلّم القراءة والكتابة. لا تخجل من عثراتها اللغوية، وتُصرّ على تجاوزها، كما تفعل في حياتها الشخصية.
تظلّ هناك علاقة غريبة تجمع بينها وبين الأخبار الواصلة إليها عبر شاشة التلفاز. تتابع، في خضمّ انشغالاتها، ما يجري في بلدها، وتتوقّف بحيرة عند العلاقة الغامضة بين الأميركيين وحركة طالبان. تزيد أسئلة ابنتها لها من قلقها على مصير بلدها، ومستقبل نسائه. بين حيويتها وطموحاتها العملية، وانشغالاتها في حلّ مشكلاتها غيرها، يمتلئ المشهد العائلي، وترتسم بدقّة ملامح بورتريه لامرأة نادرة التكوين. امرأة، رغم كلّ ما يحيط بها من حواجز تُعطّل الإرادات، تتحرّك وتنشط. بحسّها الفطري، تُدرك أنّ هناك أخطاراً مقبلة لا تبوح بها وجلاً، وفي السرّ تترك لدموعها التعبير عنها صراحة.
منذ تواتر الأخبار عن اتفاق محتمل بينهما، يمنح قادة طالبان فرصة الوصول إلى الحكم بعد انسحاب الجيش الأميركي، والدموع لا تفارق عينيها. في قلبها حزن دفين وخوف من مُقبل مجهول.
المشهد الأفغاني المُتغيّر يُوثَّق عبر حوا، المنشغلة بالذي يجري بعيداً عن أنظار الأفغان. مع اقتراب مسلحي طالبان من المدن الكبرى، تتوارد الأخبار عن اكتساحهم لكلّ مظاهر الحرية النسبية الموجودة. بوصولهم إلى كابول، يشرعون في فرض قوانين صارمة ضد المرأة وتعليمها. هذا أكثر ما يوجع حوا، فالتعليم عندها لا تساوم عليه. ملتاعة أسئلتها المتكرّرة عن مصير التلاميذ ومستقبلهم في ظلّ نظام جديد يحرمهم أبسط حقوقهم. رغم الانقلاب المريع، لم تترك نجيبة كاميرتها، ولم تُغيّب أمها عن عدساتها. المُتغير الوحيد حصل عندما كلّفت أخاها بدلاً منها تصوير ما يجري في الشوارع من انتهاكات فاضحة. من دون اتفاق، تتحوّل العائلة إلى فريق سينمائي وصحافي يوثّق تاريخاً عاماً وشخصياً في آن واحد. هذا يُعرّض حياة نجيبة للخطر. وفي ذروة مخاوفها، تقرّر ركوب الطائرة العسكرية الأميركية، الناقلة عدداً قليلاً من الأفغان إلى الخارج.
في تلك اللحظة، باتت كاميرتها بعيدة، لكنّ التوثيق يظل سارياً من داخل البيت والبلد. هذان الوضع والتشتّت الحاصلان يضفيان على الوثائقيّ بُعداً درامياً عميقاً، ويُحيل التجارب الشخصية إلى قصص قابلة للتعميم عما يجري لآخرين خارج كادراته وفيها. تهديدات طالبان لم تتأخّر عن الوصول إليهم. يتعرّض الأخ للضرب والحبس لتصويره تظاهراتٍ لمعلّمات يطالبن بعودة الطالبات إلى مدارسهن، وممرضات يرفضن قرار المسلّحين تحريم تبرّعهن بالدم للمحتاجين إليه من الرجال. خوفاً، تُقرِّر العائلة الهروب إلى إيران، بينما يظلّ التواصل بين الأم وابنتها قائماً، بأمل لقاء قريب يجمعهما.
يحصل هذا متأخّراً، بينما يدخل البلد مرحلة جديدة من البؤس والافتراق، بعيداً عن أمل بالأحسن.