TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > لا اريد أن أكون أنتم

لا اريد أن أكون أنتم

نشر في: 9 ديسمبر, 2012: 08:00 م

الإشارة إلى الذات من خلال الضمير "أنا" إشارة عميقة وكبيرة وذات دلالات غاية بالأهمية. ولا أضنني أبالغ إذا قلت بأن الضمر "أنا" يمثل عملية تتويج لرحلة الوعي البشري، وأن تمكن الإنسان من معرفة ذاته وتعريفها، وتحقيق استقلاله، يمثل حقاً عملية نضوج مميزة. لكن في الضمير "أنا" مشكلة كبيرة، فهو يوهم الفرد باستقلال مبالغ به، فيعتقد بسببه أن ذاته صنيعة مباشرة له، ويتجلى هذا الاعتقاد وتلك المبالغة من خلال اعتقادنا بأننا نصنع شخصيتنا التي تتولى صناعة مصيرنا وتتحكم به.
الضمير أنا يرتكز دائماً على ضمير التملك "لي" بل هو لا يتبلور إلا معتمداً عليه، فمن خلال تقسيم الصفات إلى ما املكه منها وما يملكه غيري، أتمكن من تعريف نفسي لنفسي، وأشكِّل معالم شخصيتي. لكن ضمير التملك مُوهِم، لأن دائرة الملكية التي يرسمها تخلط بين ما استقل بإيجاده وبين ما آخذه من غيري. ومن هنا قد لا يمتلك الضمير "أنا" الشرعية الكافية لفصلي عن محيط الجماعة، فصلاً تاماً وحازماً؟
بعبارة أخرى هل أن الذات ـ بما تختزنه من مصير ـ هي فعلاً من صناعة صاحبها؟ الجواب على هذا السؤال يعود بنا إلى ضمير التملك "لي"، والحيز الذي يرسمه من صفات جسدية ونفسية ومعنوية، فهذه الصفات لم يملكها الإنسان لأنه خلقها بل لأنه اكتسبها. فالصفات الجسدية جاءته عن طريق الوراثة، ما يعني بأنها مجموعة صفات تم تجميعها من سلسة الآباء والأمهات. أما الصفات النفسية، وحتى الأخلاقية، فهي صفات تتبلور بسبب ـ أو عن طريق ـ التنشئة الاجتماعية بمراحلها المختلفة. ما يعني أنها هي الأخرى مجموعة صفات تم فرضها عن طريق المحيط الاجتماعي. بَقِيَت الصفات المعنوية، وأقصد بها مجموعة الأدوار والمراكز التي يشغلها الإنسان خلال رحلة حياته. وهذه الصفات أكثر مفردات الشخصية تعلقاً بالمحيط الاجتماعي، فدور الفرد في جماعته ومركزه فيها، صفتان تحددهما الجماعة. إذن نعود للتشكيك بوضوح الحدود التي يرسمها الضمير "أنا" بينه وبين جماعته، إذ يبدوا على هذا التشكيك أنه مراوغ لدرجة تجعله قادراً على هدم خصوصية الذات الإنسانية، وإعادتها إلى حقيقة أنها مجموعة من الشضايا والكسريات التي تم تجميعها من بقية أفراد المحيط الاجتماعي؛ ما يعني أنك لست أنت بشكل دقيق، بل مجموعة ـ تم تجميعها بشكل عشوائي ـ من صفات الآخرين. والأهم من ذلك أن مصيرك ليس من صنعك!
دعوني عيد صياغة هذه السفسطة بشكل آخر؛ لنفرض أن مجموعة من الأفراد اشتركوا بعملية صناعة تمثال، فجاء قسم منهم بالطين، وقسم بالألوان، وتبرع آخرون بالأدوات الفنية اللازمة، ثم باشر مجموعة من الفنانين عملية النحت، واكتمل التمثال، فكان أنت أو أنا أو أي إنسان آخر؛ فهل يحق لهذا الإنسان "التشكيلة" أن يقول "أنا" بكامل الحمولة الدلالية لهذا الضمير؟
الجواب متروك لكم اصدقائي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: صيف المالكي

صمت!

العمود الثامن: تزوير ترامب !!

العمود الثامن: نشيد عالية وأخواتها!!

الذين يتمسحون بأذيال السيستاني

العمود الثامن: براءة نور وتابعه هيثم !!

 علي حسين إنتظر المواطن العراقي أن يخرج عليه مسؤول يخبره عن الجهات التي سهّلت سرقة أموال الضرائب وأنتظرنا جميعا صابرين أن يصدر قرار قضائي بمصادرة اموال المتهمين والحكم عليهم باحكام شديدة ، إلا...

قناطر: حوارٌ غيرُ هادئ

طالب عبد العزيز في العام 2009 تسنى لنا، نحن طيف من مثقفي البصرة، زيارة المملكة العربية السعودية، وفي قاعة بمكتبة الملك عبد الله بن عبد العزيز، آنذاك، قيل لنا بأنَّ أكثر من سبعمائة وخمسين...
طالب عبد العزيز

مشاكل عدم المساواة في الشرق الأوسط

د. فالح الحمراني ظلت منطقة الشرق الأوسط لفترة طويلة، المنطقة التي تشهد أعلى مستوى من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في العالم. ففي عام 2016، بلغت حصة أغنى 10‌% من السكان في الدخل الوطني 61‌% (وبالنسبة...
د. فالح الحمراني

التصنيفات العالمية للجامعات.. دليل أم تضليل؟

محمد الربيعي في عالم يسوده هاجس التميز والمقارنة، تبرز التصنيفات الجامعية العالمية كبوصلة توجه الطلاب وأولياء الأمور في رحلة البحث عن أفضل مؤسسة تعليمية، وتساهم في تحديد السياسات التعليمية لبعض الدول، كما استخدمت نتائجها...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram