الإشارة إلى الذات من خلال الضمير "أنا" إشارة عميقة وكبيرة وذات دلالات غاية بالأهمية. ولا أضنني أبالغ إذا قلت بأن الضمر "أنا" يمثل عملية تتويج لرحلة الوعي البشري، وأن تمكن الإنسان من معرفة ذاته وتعريفها، وتحقيق استقلاله، يمثل حقاً عملية نضوج مميزة. لكن في الضمير "أنا" مشكلة كبيرة، فهو يوهم الفرد باستقلال مبالغ به، فيعتقد بسببه أن ذاته صنيعة مباشرة له، ويتجلى هذا الاعتقاد وتلك المبالغة من خلال اعتقادنا بأننا نصنع شخصيتنا التي تتولى صناعة مصيرنا وتتحكم به.
الضمير أنا يرتكز دائماً على ضمير التملك "لي" بل هو لا يتبلور إلا معتمداً عليه، فمن خلال تقسيم الصفات إلى ما املكه منها وما يملكه غيري، أتمكن من تعريف نفسي لنفسي، وأشكِّل معالم شخصيتي. لكن ضمير التملك مُوهِم، لأن دائرة الملكية التي يرسمها تخلط بين ما استقل بإيجاده وبين ما آخذه من غيري. ومن هنا قد لا يمتلك الضمير "أنا" الشرعية الكافية لفصلي عن محيط الجماعة، فصلاً تاماً وحازماً؟
بعبارة أخرى هل أن الذات ـ بما تختزنه من مصير ـ هي فعلاً من صناعة صاحبها؟ الجواب على هذا السؤال يعود بنا إلى ضمير التملك "لي"، والحيز الذي يرسمه من صفات جسدية ونفسية ومعنوية، فهذه الصفات لم يملكها الإنسان لأنه خلقها بل لأنه اكتسبها. فالصفات الجسدية جاءته عن طريق الوراثة، ما يعني بأنها مجموعة صفات تم تجميعها من سلسة الآباء والأمهات. أما الصفات النفسية، وحتى الأخلاقية، فهي صفات تتبلور بسبب ـ أو عن طريق ـ التنشئة الاجتماعية بمراحلها المختلفة. ما يعني أنها هي الأخرى مجموعة صفات تم فرضها عن طريق المحيط الاجتماعي. بَقِيَت الصفات المعنوية، وأقصد بها مجموعة الأدوار والمراكز التي يشغلها الإنسان خلال رحلة حياته. وهذه الصفات أكثر مفردات الشخصية تعلقاً بالمحيط الاجتماعي، فدور الفرد في جماعته ومركزه فيها، صفتان تحددهما الجماعة. إذن نعود للتشكيك بوضوح الحدود التي يرسمها الضمير "أنا" بينه وبين جماعته، إذ يبدوا على هذا التشكيك أنه مراوغ لدرجة تجعله قادراً على هدم خصوصية الذات الإنسانية، وإعادتها إلى حقيقة أنها مجموعة من الشضايا والكسريات التي تم تجميعها من بقية أفراد المحيط الاجتماعي؛ ما يعني أنك لست أنت بشكل دقيق، بل مجموعة ـ تم تجميعها بشكل عشوائي ـ من صفات الآخرين. والأهم من ذلك أن مصيرك ليس من صنعك!
دعوني عيد صياغة هذه السفسطة بشكل آخر؛ لنفرض أن مجموعة من الأفراد اشتركوا بعملية صناعة تمثال، فجاء قسم منهم بالطين، وقسم بالألوان، وتبرع آخرون بالأدوات الفنية اللازمة، ثم باشر مجموعة من الفنانين عملية النحت، واكتمل التمثال، فكان أنت أو أنا أو أي إنسان آخر؛ فهل يحق لهذا الإنسان "التشكيلة" أن يقول "أنا" بكامل الحمولة الدلالية لهذا الضمير؟
الجواب متروك لكم اصدقائي.
لا اريد أن أكون أنتم
[post-views]
نشر في: 9 ديسمبر, 2012: 08:00 م