ثائر صالح
هناك أعمال موسيقية يجري تسجيلها مراراً وتكراراً، وبتوزيع جديد أو باستعمال أدوات مختلفة عن الأصل في كثير من الأحيان. نجد بين أبلغ الأمثلة عمل شوبرت الرائع "سلاماً مريم" (D839) والقطعة المنحولة بنفس العنوان المنسوبة إلى جوليو كاتشيني التي ألفها الروسي فافيلوف في 1970، وكانون يوهان باشلبل في ره الشهير، أو الأداجيو الشهير الذي ينسب إلى ألبينوني وغيرها. لكن هناك عمل ليس بشهرة وشعبية هذه الأعمال التي أصبحت تسمع عبر كل الوسائط، هو عمل ألفه موسيقار عظيم من القرن السابع عشر جرى تسجيله بشكل غير اعتيادي.
فقد ألف هاينريش إغناتس (فون) بيبر (1644 - 1704) عملاً للكمان المنفرد مع مصاحبة القرار يتألف من 15 سوناتا واختتمها بقطعة في شكل باساكاليا. أطلق بيبر على هذا العمل المتميز اسم "سوناتات المسبحة الوردية"، أو "سوناتات الأسرار" تحكي المراحل التي مر بها السيد المسيح منذ البشارة حتى صلبه. سبب التميز هو استعمال بيبر ما يعرف بالاسم الإيطالي "سكورداتورا"، وهو دوزنة الأوتار على غير الدوزان المعتاد للحصول على مميزات صوتية خاصة أثناء العزف على الكمان. مختصر العملية هو دوزنة الأوتار على نحو مختلف بينما يعزف العازف العمل الموسيقي كما لو كان الدوزان اعتيادياً، باستعمال "المسكات" ومواقع الأصابع الاعتيادية بينما يكون المؤلف قد وضع الدوزان المختلف في الحسبان أثناء عملية التأليف. تبدو العملية معقدة وتحتاج إلى ذهنية متقدة من جانب المؤلف. يقال أن الطريقة هذه ابتكرها موسيقي ألماني سنة 1660، ثم استعملها بيبر في عمله هذا الذي ألفه حوالي 1676. وهناك القليل من المؤلفات المكتوبة بهذه الطريقة، وقد استعمل عدد من المؤلفين طريقة سكورداتورا في التأليف، بينهم فيفالدي وتلمان وهايدن وباغانيني وسينسانص ومالر وبارتوك.
تمثل كل محطة من المحطات الخمسة عشر محطة من حياة السيد المسيح، وتقسم إلى ثلاث مجموعات: الفرح والحزن والمجد، وهي جزء من الصلوات الكاثوليكية التي تبلورت في القرون الوسطى (ما بين القرن العاشر- الثالث عشر). وقد أبقى بيبر على دوزان الكمان في السوناتا الأولى والأخيرة، وكذلك في الباساكاليا. والباساكاليا هو شكل من أشكال التنويعات انتشر في عصر الباروك، يجري خلاله تكرار لحن أساسي في خط القرار بينما تتوالي التنويعات في الخطوط العليا. وقد شدّني العمل عند سماعه للمرة الأولى قبل حوالي عشرين سنة، إذ وجدته مختلفاً عما اعتدت سماعه من موسيقى الباروك الوسيط، ولم أعِ سبب ذلك إلا عندما اطلعت على قصة السكورداتورا. وقد وجدت تعداداً بالتسجيلات لهذا العمل الفذ في أحد المواقع على النت، يذكر فيه 117 تسجيلاً حتى اليوم، يعود أقدمها إلى أواخر خمسينات القرن الماضي .
ولد بيبر في مدينة ستراج في شمال بوهيميا القريبة إلى الحدود الألمانية اليوم، وكان أحد أعظم عازفي الكمان في القرن السابع عشر، عمل في غراتس النمساوية قبل أن ينتقل في 1670 إلى زالتسبورغ في النمسا ليخدم عن أسقف المدينة، حيث كتب أعمالا دينية كثيرة، وبقي هناك حتى وفاته.
موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية
نشر في: 5 يناير, 2025: 12:01 ص