TOP

جريدة المدى > عام > حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

نشر في: 5 يناير, 2025: 12:03 ص

د. نادية هناوي

كان لحركة الشعر الحر التي بدأت بوادرها في العراق أواخر عام 1947 دور مهم في تحديث الرؤى الفكرية لا حول الشعر العربي تاريخا وأبنية ومسارات ونماذج حسب، بل حول الحياة العربية بمجملها سياسة واجتماعا واقتصادا وما الى ذلك. وهذا ما أثار حماسة الشباب العربي نحو تجديد الواقع وتحديثه من جانبين: الأول فني يتمثل بالبحث في بنائية هذا الوليد الجديد، والاخر فكري يتمثل في النظر في قضية التحديث نفسها بوصفها فعلا تنويريا.
وازدادت الحماسة للتغيير بشكل كبير بعد الأبحاث النوعية غير المسبوقة لنازك الملائكة سواء في عروض الشعر الحر والجذور الاجتماعية لحركة هذا الشعر أو في القضايا الأخرى التي لها مساس مباشر بواقع المجتمع العربي من النواحي السياسية والاجتماعية والأخلاقية وساعد في ذلك أيضا ما كانت قد شهدته البلدان العربية منذ أواسط خمسينيات القرن العشرين من نزعة نحو التغيير والنهوض، تأججت مع موجة المد الايديولوجي المتطلع الى النهضة والتنوير.
ولقد أحسن الشاعر يوسف الصائغ في أطروحته الموسومة( الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى عام 1957 دراسة نقدية) حين قدَّم دراسة الفكر على الاجتماع والسياسة وعلم النفس والبناء والصور والاوزان ذلك أن هذه الحركة كانت بمثابة ثورة انقلابية في الوعي العربي أيقظت المجتمع العربي وساهمت في تطويره الفكري، وليست مجرد تغيير في الأشكال أو الأبنية كما كان يُنظر إليها بعض نقاد تلك المرحلة ومعهم بعض المفكرين، ومنهم هادي العلوي الذي رأى في مقاله( حول قضية الشعر الجديد) مجلة الآداب اللبنانية، 1958 أن الشعر الحر( نمط جديد من الشعر يضاف إلى الأنماط المألوفة، يسير معها جنبا الى جنب كما سار الموشح في العصور السابقة. وهو ليس ضرورة أملاها التطور الجديد في واقع الحياة العربية، بل هو تأثر بالأدب الغربي أي أنه عمل فني صرف وليس لواقع الحياة علاقة في إيجاده. يوضح ذلك تسميته بالشعر الحر أي أن الشاعر حر في أن يسير على الطريقة التعبيرية القديمة أو الجديدة. فتحرر من القيود من كانت تمنعه من الانطلاق. وآخرون لم يشأوا أن يتحرروا من القيود لأنهم وجودوها لا تمنعهم من الانطلاق ومنهم الجواهري، فيه الدليل على تحكم المقدرة في ايجاد الشعر القديم .. وأن القافية ليست عجوزا قميئة ولا عتيقة محدودبة. والإطار القديم ليس قفصا حديديا يمنع الشاعر، إذا أوتي الموهبة الفنية والمقدرة اللغوية، من التحليق)
ولمدني صالح موقف مماثل أيضا؛ ففي مقاله( الفكرة المولدة في بواكير شعر السياب) مجلة الآداب اللبنانية 1967 وجد أن شعر السياب بين الأعوام 1944و1948 يقوم على تكرار اللفظ وثبات العبارة التي عادة ما ترد( بدلالة قاموسية تنتفي معها روعة الشعر). ولقد كشف مدني صالح في مقاله هذا لا عن باعه المتواضع في نقد الشعر، بل عن تناقض أفكاره ايضا؛ فهو تارة يرى أن بين القارئ وشعر السياب برزخا فهو (استجدائي في أزقة الهوى ودروب الحب يمد يديه في انتظار يائس.. عشاق كسول يدلل نفسه واهمًا، يحتضن ولا يحضن وتمتد ذراعاها إليه ولا يحرك ساكنا). وتارة اخرى يرى السياب شفافا كالبلور صلبا كالماس عميقا كالبحر شاعرا ملأ الدنيا والسمع والبصر والفؤاد وإماما للشعر.
إن مثل هذه الآراء حول الشعر الحر سواء على مستوى العراق او الوطن العربي هي ليست جزءا من التنازع حول ماهية هذا الشعر بقدر ما هي تنازع حول التحديث بمعناه الفكري التحرري. وعلى الرغم مما قيل في حركة الشعر الحر من رؤى تتفاوت حينا وتغلو وتتحامل حينا اخر، فإنها بالمجموع حرَّكت رواكد المجتمع العربي أفرادا وجماعات ووجهته الى التحديث لا بالمعنى الذي أرادته جماعة شعر وكان مقصدها من التحديث التطلع لكل ما هو غربي عبر اتباع موضاته بل بالمعنى الذي أكدته نازك الملائكة في كتاباتها وهو الانطلاق من التراث والإفادة من المعاصرة. فهذا هو ما يضع العربي على طريق الحداثة الحقة، الحداثة التي لا تابع فيها ولا متبوع، بل هي هاجس ذاتي موضوعي ينمو بتلقائية ويدوم بقصدية النظر الى الامام وعدم الانقطاع عن النظر الى الأسلاف.
صحيح أن المناوئة التي لاقتها حركة الشعر الحر ممثلة بمنظرتها الناقدة الكبيرة نازك الملائكة كانت حادة وكبيرة واستعدائية -مما سيطول بنا المقام إن نحن أردنا شرحه- لكن ذلك كله لم يمنع رواد الحركة ومن جاء بعدهم من أن تنتشر أفكارهم في أصقاع البلاد العربية بدءا من الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر وصولا الى بلاد المغرب العربي.
وهذا ليس بالغريب فمنذ القدم والامتزاج بين البيئات الأدبية العربية حاصل وقائم. ولم تؤثر في ديموميته العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولنخصص الحديث ببيئة الجزيرة العربية لنرى أن أدباء العراق كانوا على تماس دائم مع أدباء المملكة العربية السعودية لأسباب كثيرة اقتصادية وثقافية واجتماعية. ولقد وثَّق محمد رضا الشبيبي رحلته من البصرة إلى حائل مطلع القرن العشرين بعضا من ذلك. ولا شك في أن لمواسم الحج دورها في التقارب الثقافي والأدبي. هذا ما أكده العميد طه حسين بالقول 🙁 أهل نجد يختلفون إلى العراق كثيرا والعراقيون يصعدون إلى نجد ولا بد من أن يعود الحال بين القطرين إلى ما كان عليه أيام بني أمية من التعاون الأدبي القوي)
ولم يكن ظهور حركة الشعر الحر في العراق سوى تعبير عما عاشته هذه البيئات من مخاضات البحث عن التجديد والتطوير. ومن الطبيعي بعد ذلك أن تتجلى تأثيرات هذه الحركة في الأدب السعودي؛ فاتجه بعض الشعراء نحو محاربة المألوف والتقليدي في المجتمع السعودي. مما أثر في القصاصين والروائيين والنقاد ومنهم د. عبد الله الغذامي الذي يعد التحديثي الأول بعد أن تعرف إلى الشعر الحر عام 1962 حين كان تلميذا في المعهد العلمي بعنيزة. وصار في أواسط الثمانينيات من أهم المنادين بالتحديث والتجديد. وهو الذي عدَّ الحداثة حكاية اجتماعية قامت (على حبكة محكمة ظللنا كلنا أطرافا في تمثيلها سواء كنا معها أو ضدها أو حتى محايدين وما من أحد إلا وله موقف منها بالضرورة)
ومن آرائه مثلا أن الساكن الذهني يعني مرتكزا من مرتكزات المجتمع المحافظ، ولذلك دعا إلى تحريك هذا الساكن غير أن صراع القدامة والحداثة ظل محتدما لأكثر من عقدين من الزمان. كانت محصلته توجه الأدب السعودي نحو الحداثة شعرا وسردا ونقدا. فتأسست في الثمانينيات جماعة نقدية تعنى بالنقد النصوصي الالسني سميت بمنطق النص، وانضم إليها كتاب وأدباء سعوديون منهم عبد الله الغذامي وسعيد السيرحي وعالي القرشي وعبده خال وعبد العزي الصقعبي واشترك معهم ايضا صلاح فضل.
وتباينت آراء د. عبد الله الغذامي في تحديد المرحلة الزمنية التي لاحت فيها بوادر التحديث في المملكة العربية السعودية، فتارة يراها تتحدد بتاريخ الحداثة ما بين 1958 وأواخر الستينيات من القرن العشرين حين( بدأت موجة جديدة من الشباب المبدعين يظهرون بثقة مفاجئة منهم محمد العلي وسعد الحميدين واحمد الصالح وعلي الدميني وفوزية أبو خالد) وتارة ثانية يرى أن الإبداع الثقافي لم يتأسس إلا سبعينات القرن العشرين، وتارة ثالثة يرى الحداثة بدأت مع الأدباء الذين استجابوا لسؤال التحول بالتزامن مع (مشروع بناء الدولة الحديثة في المملكة .. ويكمن وراءه وعي بشروط التغيير ومتطلباته) ومثَّل على ذلك بالشاعر محمد حسن عواد بقصيدته( التين والجميزة ) المنشورة عام 1924 . واعتبرها تمثل البداية التأسيسية التي عنها تمخضت موجة شعرية وإصلاحية وفكرية، ثم تلتها موجة تحديث ثانية تتمثل بجيل من الشعراء ثبتوا في إبداعيتهم وأسسوا لخطاب شعري ثري ومتنوع. وقدَّم الناقد الغذامي الشاعر حمزة شحاته على محمد حسن عواد، لأن أعمال الأخير لا ترقى إلى مستوى التجديد الإبداعي اللافت، بل هو (مجرد أصداء أولية للإبداعات العربية في مصر تحديدا وفي العراق بعض الشيء ولو نظرنا لقصيدته خطوة الى الاتحاد العربي لوجدناها مجرد نص شعري بسيط)
ولم يعمم د. عبد الله الغذامي سؤال الحداثة على الأدب السعودي بمجموعه، فترك التمثيل على أدباء القصة والرواية وأكد أن( القصة القصيرة لم تحدث اية ردة فعل نسقي وظلت على هامش السياق الثقافي ودرجة مقروئيتها ضعيفة جدا) وكذلك حصر الناقد الغذامي حكاية الحداثة بتجربته الشخصية مع النقد الثقافي المحدد بمفاهيم النسق والقبح والدال الرمزي وما الى ذلك. وهو من الآخذين على حداثة ادونيس واليوت وغيرهما أنها حداثة رجعية أو أصولية تراثية، لأن الحداثة بالنسبة إليه تعني صراع النظر إلى الأمام والتجديد الواعي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بطولات وتحوّلات.. ملاحم ومحطات الجيش العراقي في الذكرى 104 من تأسيسه

اثيل النجيفي: التغيير السياسي في العراق قادم

الإعمار تحدد موعد التقديم الإلكتروني لقروض صندوق الإسكان

وزير الدفاع يعلن انجاز معاملات حقوق عوائل شهداء الجيش

التجارة تطلق حصة جديدة من السلة الغذائية إعتبارا من الغد

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية

نادي المدى الثقافي يبحث في أشكال القراءة وأدوارها

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

مقالات ذات صلة

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي
عام

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

د. نادية هناوي كان لحركة الشعر الحر التي بدأت بوادرها في العراق أواخر عام 1947 دور مهم في تحديث الرؤى الفكرية لا حول الشعر العربي تاريخا وأبنية ومسارات ونماذج حسب، بل حول الحياة العربية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram