لطفية الدليمي
لم ألعب في حياتي سوى القليل من مباريات الشطرنج، وكلّ ما عرفته عن هذه اللعبة أنّها (لعبة الملوك) لأنّ كلّ نقلة فيها تنطوي على كثرة من الخيارات، وكلّ خيار يؤدّي إلى سلسلة خيارات تالية. الأمر أشبه بترتيبات ذهنية معقّدة ولانهائية لا تحسمها رمية نرد مثلما يحصل في ألعابٍ غير الشطرنج. قبل بضعة أيّام سمعتُ للمرة الأولى بعبارة (الشطرنج الخاطف Blitz Chess) الذي يختلف عن الشطرنج العادي في أنّه يتعامل بالثواني وحتى أجزاء الثانية. الزمن هو نصل السيف الحاد المسلّط على رقاب لاعبيه الذين يظهرون أقرب لآلات مبرمجة تؤدّي نقلات مقدّرة بصورة مسبقة. لم أستسغ اللعبة كثيراً لأنّ عنصر الحسم الزمني سيكون بالضرورة على حساب الإجادة الذهنية والنقلات المبتكرة غير المسبوقة.
رأيتُ في متابعتي الفيديوية أستاذاً عالمياً بارعاً من أساتيذ اللعبة هو فاسيلي إيفانتشوك البالغ خمساً وخمسين سنة وهو ينهار وينتحب كطفل عقب خسارته بفارق زمن ضئيل أمام منافسه الأمريكي الشاب. تعدّدت مسوّغات المعلّقين في أسباب انتحابه المؤلم. بعضهم قال أنّه مرثية لعبقريته المنطفئة وخذلانه الذهني في إتمام الحسابات الشطرنجية بسرعة تقف نداً للشاب المنافس. آخرون قالوا أنّه يبكي الجائزة المالية التي خسرها. بعضهم رأى في بكائه عقاباً مستحقاً لأنّه نسي ذكر الخالق ومضى في متابعة شأن دنيوي تافه كالشطرنج؛ بل سبّح بعضهم بحمد الله كثيراً إذ جعله على غير مثال إيفانتشوك!! وذهبت به نشوة انتصاره على دموع ايفانتشوك حدّ وجود فتوى تحرّمُ هذه الرياضة الذهنية، وبالطبع إتّخذ من بكاء إيفانتشوك مسوّغاً لتدعيم حجّته.
نحيبُ إيفانتشوك أبعدُ دلالة من كلّ هذه التخريجات النفسية والمادية. إنّها معضلة الكائن الذي يرسم لنفسه مساراً ملحمياً في حياةٍ لم تَجْرِ هندستُها لعيش الكائنات الملحمية. نحنُ لسنا مخلوقات ملحمية، وفناؤنا هو الشاهدة الأعظم على نكوص مجهوداتنا الملحمية وعبثيتها؛ لكنّ هذا لن يصدّ بعض البشر منّا في إرتياد طريق الملحمة مهما كان وعراً وغير مبشّر بنتائج تسرّ قلوب الملحميين.
حياتنا ليست مسرحاً معدّاً لأداء ملحمي. هذا صحيح؛ لكنّ حياتنا لن ترتقي من غير جهاد ملحمي. وُجِدَ الانسان لا ليقبل بإملاءات الطبيعة (أو الآلهة في عصر ما قبل التنوير) بل ليكيّفها طبقاً لمبتغياته. المعضلة الكامنة في هذه الثنائية المتنافرة هي أنّ الكائن الملحمي يجعل حياته متمحورة على هدف واحد وغاية مفردة. قد يبدو هذا الأمر طبيعياً في سنوات الحياة الأولى لأنّ الاهداف لا تتحقق إلّا بانضباط وانصراف كامل للعمل والجهد من غير إلهاءات جانبية؛ لكن مع السنوات يبدو أنّ السلوك الأفضل هو تخفيف هذه الرؤية المتمحورة على هدف أوحد وغاية متفرّدة وتوزيعها على أهداف أصغر حجماً. الجرعة الملحمية من الأفضل أن تخفّ مع سنوات العمر لتصبح أهدافاً بشرية ممكنة وليست صناعة آلهة. ما حصل مع إيفانتشوك -كما أحسب- هو أنّه نسي نفسه ولم يتحسّب لمفاعيل الزمن والقدرات التقنية الرقمية المتعاظمة التي سيفيد منها الجيل الأكثر شباباً. وجد إيفانتشوك نفسه وحيداً أعزل من مصادر قوّته المفترضة الوحيدة وهي الشطرنج. لم يُطِقْ رؤية نفسه يغادرُ المركز الأوّل بعد كلّ السنوات الشاقة من الصبر والجَلَد والتحمّل. من المؤكّد أنّ الحياة فيها مصادر كثيرة يمكنُ أن تمنحنا العزاء والسلوى والرغبة في مواصلة العيش بأفق منفتح يستطيع رؤية النجوم البيضاء الصغيرة في أشدّ الليالي ظلمة. تستطيع الحياة منحنا هذه الإمتيازات الثمينة عندما نتخلّى عن قناعاتنا الراسخة المسبّقة بضرورة أن تحصل الأمور كما نريد. من يفعل هذا يخسر متعة تجريب ما لم يُجرّبْ.
في مقابل هؤلاء الملحميين يوجد الممتثلون The Conformists الذين يؤثرون السلامة وعيش يوم بيوم. لا شغل لهم برؤية ملحمية أو أوجاع دماغ، وما الدنيا لديهم سوى دار أكل وشرب ونوم. هؤلاء الممتثلون يذكّرونني بقصّة قصيرة كتبها (جبران خليل جبران) عنوانها (البنفسجة الطموح). ملخّص الحكاية أنّ بنفسجة لم تحتملْ عيش كلّ حياتها لصيقة بالأرض فأرادت أن تخالف وصية الأمّ الكبيرة للبنفسج بضرورة حكمة القناعة والرضا بعيش القيعان؛ فاعتزمت أن تغدو طويلة الساق مرفوعة الهامة بوجه الريح والشمس. حصل ذات يوم أن هبّت عاصفة هوجاء أطاحت بهذه البنفسجة نحو الأرض بعد أن كُسِرَتْ ساقُها المتشامخة. راحت أزاهير الينفسج الصغيرة تصغي لموعظة الأم وهي تلقي على مسامعهم عقاب من يخرج على وصايا الكبار، وهنا استجمعت البنفسجة المقتولة آخر أنفاسها وخاطبتهم:"أعرف بأنّني سأموت بعد لحظات؛ لكنّي في الأقل رأيت ما لم تروا، وعرفت ما لم تعرفوا، وعشتُ ما لم تعيشوا". لعلّ الحكاية تختزنُ جرعة درامية مضخّمة على الطريقة الجُبْرانية المعهودة؛ لكنّها تكشف عن الكثير من تفاصيل حياتنا الحالية. أراد جبران إزدراء وصايا الكبار المتلفّعين بأغطية الحكمة ودثار السلامة، وهُمْ ليسوا في حقيقتهم سوى مدلّسين منتفعين.
يعرف المشتغلون في حقول العلم والرياضيات أنّ الإنجازات الكبرى غالباً ما تتحقّق قبل سنّ الأربعين، وبعد هذه السن يصبح من العسير تحقيق إنعطافة علمية مثيرة. أشار الرياضياتي البريطاني جي. أتش. هاردي إلى هذه الجزئية الخطيرة في كتابه الشهير (دفاع عالم رياضيات)، وقد أصابه الإكتئاب بفعل هذا الأمر. لم يقدّم هاردي في كتابه وصفة لكبح هذا الإكتئاب، وأظنّه فكّر فيه بالتأكيد. لن ينفع لومُ النفس أو تأنيبها على خياراتها السابقة. الشجاعة هي أن نقبل الحقيقة ونتعامل معها بأريحية بكلّ ما يترتّبُ عليها.
آلمتني دموعُ إيفانتشوك بصرف النظر عن مُسبّباتها. لو أتيحت لي إمكانية الحديث معه لقلتُ له: اياك ومضادات الإكتئاب. ما بك ليس اكتئاباً بل رؤية مضبّبة بعض الشيء بسبب خيارك الملحمي. هل لديك صديقي ايفانتشوك نسخة مترجمة إلى الروسية من ملحمة كلكامش؟ اقرأ ما قالته (سيدوري) صاحبة الحانة لكلكامش وافعل مثله تماماً. قد لا تكون الأوّل في الشطرنج الخاطف. لا يهمّ. ولماذا يجب أن تكون الأوّل؟ يكفيك أن تفعل ما تحب. هذا يكفيك يا ايفانتشوك. ألا تعتقدُ أنّ تناول طبخة لذيذة من يد زوجتك وأبنائك أهمّ من ألف لعبة شطرنج خاطف أو غير خاطف؟
ليس فينا من هو كائن ملحمي خالص على نمط ايفانتشوك، أو كائن ممتثل خالص على مثال البنفسج الجبراني اللصيق بالأرض. فينا شيء من هذا وبعضٌ من ذاك بمقادير تزيد أو تنقص تبعاً لترتيباتنا الذهنية ورؤانا الفلسفية وأوضاعنا السياسية والاقتصادية، والبارع فينا من يضبط هذه المقادير ما استطاع إليها سبيلاً.
يبقى النزوع الملحمي المنضبط أفضل وأكثر كرامة للإنسان من إدمان العيش في قيعان الإمتثال الآسنة.
كفكف دموعك يا ايفانتشوك واتبع سيدوري؛ فلعلّ حكمة رافدينية قيلت قبل آلاف السنوات تمنحك ترياقاً لعيش حياة أفضل ممّا عشت حتى عندما كنت المعوّل عليه لهزيمة من استعصت هزيمته من عباقرة الشطرنج.