علي حسن الفوازهذه الساعة ليست خاضعة لمقايسة الزمن الشائع بالكامل، إنها ساعة مصرية بامتياز، ساعة تخرج عن المواقيت، وعن الأمكنة، وعن اللغة التي اعتاد المصريون(حرفنتها)بطرق مفتونة وفاتنة، ساعة تحوز أيضاً توصيفات وجودية وأخلاقية وتاريخية، مثلما تحوز في الاتجاه الآخر معاني قد تسقط تداول المفهوم التقليدي لفكرة الزمن السياسي،
هذا الزمن الذي هرب الى ساعته الخامسة والعشرين ليكون زمنا شعبيا، زمنا لـ (الحرافيش)و(الغلابة) و(الصعايدة) و(مثقفي الهامش)وربما زمنا مفتوحا للحرية، حرية الوعي والجمال والأسئلة.rnخروج المصريين الى فضاءات هذه الساعة لا يعني خروجا مجردا على السلطة كما يبدو ظاهرا، ولا يعني التنفيس عن اختناقات قديمة في الذات والتاريخ واللغة، بقدر ما يعني هذا الخروج(الساطع)تعبيرا عن الحاجة العميقة إلى أنسنة السلطة، لكي تكون سلطة قابلة للحوار والجدل الآمن وقابلة للتغيير وتبادل المنافع السياسية والثقافية، مثلما هي تعبير عن الرغبة في إعادة توصيف يوميات البطل المصري بمرجعياته التاريخية والأمنية واللغوية ليكون بطلاً ًداخل الحياة، بطلاً يشبه حقا أبطال أسامة أنور عكاشة، ويوسف القعيد ويحيى الطاهر عبد الله، إذ هو البطل الحالم والمتمرد والثوري والعاشق وغير الخانع والخائف والمندمج اضطراراً مع السياق كما تعودنا ان نقرأ في روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما.يسمي محمد حسنين هيكل هذه الأيام المصرية بـ (الثورة المتكاملة) والتي تفوق في تكاملها ثورة عرابي وثورة 1952، لأنها تمثلت مفهوم الثورة بمعناها الحركي، وبدلالة اشتراك الجمهور الواسع في أيامها وفصولها. وتوصيف هيكل هذا يضعه في المواقع المضاد للسلطة التي كان هيكل جزءاً من زمنها السياسي والإعلامي، مثلما هي محاولة أخلاقية لان يصطنع هيكل لنفسه دور المؤرخ وليس الصحفي القديم، وتبديل هذا الدور هو تعبير عن أزمة العلاقة مابين جمع من مثقفي المرحلة الناصرية بنزعاتها القومية الرومانسية مع مثال النموذج الغرائبي للسلطة السياسية التي صنعتها مرحلة ما بعد هزيمة 1967، وسياسات الانفتاح وتمثل شروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ونموذج رأسمالية الطبقة والدولة، وكذلك مرحلة ما بعد اتفاقيات كامب ديفيد، والتي صنعت دولة غائمة لا هوية محددة لها، سوى أنها تؤدي الوظيفة القديمة لـ (الدولة الكبرى)التي تحمي التوازنات السياسية في المنطقة الساخنة بالصراعات والأزمات والحروب، مثلما تحمي المصالح الغربية/الأمريكية في سياقها السياسي الإقليمي والدولي وفي سياق مواجهتها مصالح داخلية بدأت تتأجج اشتعالاتها وحاجاتها بسبب تراكم التشوهات السياسية والاقتصادية التي تؤديها هذه الدولة الكبرى مع دول أخرى بدأت تعاني بالتتابع من العلامات المرضية للساعة المصرية، والتي سبق ان سقطت بها السلطة التونسية ذات(السستم)الاستعراضي الفاشل لنمط الثقافة العلمانية والسياحية، والتي كان وعي الجمهور التونسي/أقصد قوة النخب الثقافية والمهنية فيها، قد امتص الكثير من تداعيات هذه الساعة، من خلال اصطناع الساعة الوطنية التي قد تعيد الحياة والتوازن الى فاعلية الجماعات والقوى والزمن للاندماج في سيرورة مفهوم الدولة دون الحديث عن(ثورات) ثانوية قد تأكل أصابع ثورة الياسمين التونسية..ما يحدث في مصر من إعراض أكثر سخونة لهذه الساعة يحمل معه تداعيات اكثر خطورة أيضاً، وربما أكثر انفعالاً وهيجاناً، إذ أنها تعبّر عن حساسيات زمن طويل من الازمات المؤجلة الخبيئة تحت جلد غليظ من المدونات الرسمية، وسياسات الطوارئ التي بررت فرض الانماط التقليدية للحكم الامني الصارم الموهوم بفوبيا الاعداء دائما، مثلما يعبّر عن تاريخ من العلاقات المأزومة والشوهاء ما بين الدولة والمواطن، والتي جعلت الدولة مؤسسة لـ (البيت العالي)والمواطن كائن مسكون بلعبة الهامش، إذ هو الحرفوش الصغير الذي تسرق احلامه وارزاقه ولياليه. وأحسب ان تعقّد هذه الأعراض وتحولها الى صراعات داخلية كما تجسد في احداث ميدان التحرير، والى ازمة بنيوية في المجتمع المصري(صراع الجماعات المؤيدة والمعارضة) والذي تعودت نخبه على صناعة(الاطمئنان) و(المساكنة)الداخلية بين مكوناته الاجتماعية والطبقية وحتى الدينية، ولعل رفع البعض من المتظاهرين صور جمال عبد الناصر هو تعبير نفسي واخلاقي عن الحنين الى وهم هذا الاطمئنان، الذي كانت تصنع بعض ظواهره السلطة الناصرية بنوع من اعطاء الجرعات الشعبية، وربما تروج من خلاله للتماهي مع(بطولة أخلاقية) لشخصيات وظواهر وعلاقات كثيرة وجدت السينما المصرية والدراما المصرية الواقعية هامشا كبيرا لتكريس نمطها في العقل الشعبي، وفي يوميات الزمن الوطني وفي سرائر الامكنة المصرية، خاصة الحارات والأرياف، إذ يزاوج زمنها بين المقدس والرمزي، وكذلك بين القوة الاخلاقية والقوة الرمزية.أدونيس والثورة المصريةيقول الشاعر أدونيس(كانت مصر في حاجة الى نيل آخر، نيل لا يجيء من الغيوم او من فوق حياة البشر، وانما ينبجس دائما من الاقدام والايدي، من الشرايين والاوردة) هذا التوصيف يضعه ادونيس في سياق شعري، لان مصر المكان تخصه كثيرا، مثلما تخص كل المثقفين العرب، وان النيل الاخر المفترض هو هذا النيل الشعري، النيل الإنساني الذي يكسر القاعدة القهرية التي يقول عنها ادونيس في ذا
مصر .. الصعود الى الساعة الخامسة والعشرين من يناير
نشر في: 5 فبراير, 2011: 04:56 م