TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الحرب في الرواية العراقية: وجهة نظر اجتماعية (1-2 )

الحرب في الرواية العراقية: وجهة نظر اجتماعية (1-2 )

نشر في: 7 يناير, 2025: 12:03 ص

لاهاي عبد الحسين

كما يوجد "حديثو النعمة" من المتربحين من ظروف التغير الاقتصادي والسياسي، يمكن القول إنّ هناك "حديثو المهنة" ممن دخلوا ميدان العلم وحصلوا على عمل فيه بصيغة وظيفة حكومية أو غير حكومية بحكم الحصول على شهادة علمية بظروف مرتبكة. وسرعان ما وجد أمثال هؤلاء أنفسهم بمكانة تتطلب منهم إبداء الرأي أو المشورة فكان عليهم أنْ يقولوا قولاً ما. ولما كان هؤلاء لم يتأهلوا حقيقةً بعد بحكم حداثة التجربة، ومحدودية المعرفة والاطلاع، فقد يقولون ما لا يتأهلون له، أو يختارون طريق التبسيط كرديف مقارب للتسطيح. يعيبون على سبيل المثال ميدان العلم الذي يتخصصون فيه محدوديته، وكأنهم الحجة فيه. ولو كانوا من أصحاب الحجة، وإنْ كانت متواضعة، لقدموا الدليل على ذلك، وهذه من أبجديات ما يتطلبه الرأي العلمي. لا يدرك هؤلاء أنهم عندما يعيبون على ميدان العلم جانباً، ويكتفون بذلك دون تقديم ما يعزز رأيهم إنما يطعنون بمصداقية تأهلهم. ولن يطول بهم الأمد حتى يدركوا انطفاء وهج الشهادة التي حصلوا عليها مما فشلوا في تمتينها بالعمل المخلص الدؤوب، وليس بالتباهي والتفاخر الأجوف، فحسب. ويقع ضمن هذا الميدان القدرة على دخول ميادين جديدة تغذي العلم وتنعشه وتفتح بوابات لتوسعة آفاق فهمه ومساهمته لتعميق الوعي ونشر ثماره الخيّرة.
على صعيد القصة والرواية كجزء من علم اجتماع الأدب باعتباره فرع من فروع علم الاجتماع يلاحظ أنّ من يعتبرهما "أداة تحليلية"، أو "وثيقة سوسيوتاريخية" انما يرتكب خطأً جسيماً. القصة أو الرواية وبخاصة العراقية في الواقع لا تزيد على أنْ تكون شهادة مجردة لمثقفين يتمتعون بالرؤية والبصيرة، ويتمكنون بسبب ذلك من رصد مشاهد يحتاج البحث العلمي الاجتماعي إلى جهد أكبر، ومنهجية أكثر تحديداً لالتقاطها وتوثيقها. كتّاب القصة والرواية ليسوا علماء اجتماع، وليسوا باحثين، ولا يدعون بذلك. وعليه، علينا ألا نحملهم ما يزيد على طاقتهم. من جانب آخر، تقدم كتّاب القصة والرواية على البحث الاجتماعي بسبب القدرة على رصد مشاهد متنوعة مستفيدين من الحرية النسبية التي يتمتعون بها منهجياً في عملهم، والخيال الذي يمتلكونه. ولهذا فإنّ عملهم يمكن أنْ يكون مصدر إلهام للباحث الاجتماعي ليواصل الدرب بصورة منظمة، ومخطط لها بعناية. هذا إلى جانب أنّ القصة والرواية ومختلف أجناس الأدب تقدم فرصة لقراءة ممتعة وجاذبة للاهتمام، وقد يساهم الدأب عليها بتطوير ملكة الكتابة.
نظرياً، معلوم أن النظرية الصراعية في مجال علم الاجتماع هي التي اهتمت بموضوعة الحرب والعنف والنزاعات، وربما كانت كما يرى البعض رد فعل على عدم اهتمام النظرية الوظيفية البنائية بهذا الموضوع. يستند البحث في القصة والرواية العراقية في هذه المقالة إلى الرأي العقلاني الذي عبر عنه الدكتور علي الوردي والذي رأى أنّ للحرب أبعاداً اجتماعية خطيرة على الجماعة مما لم يحظ بما يستحق من الاهتمام. أعطى الوردي أمثلة كثيرة على ما أحدثته الحروب والنزاعات في كتابه "لمحات في تاريخ العراق الحديث" (1969-1979). خذ على سبيل المثال أنّ الوردي ربما كان أول عالم اجتماع تناول القضية اليزيدية وما لحق باليزيديين من ظلم وتجاوز وامتهان نتيجة الجهل بماهية عقيدتهم الدينية وذلك نهاية القرن التاسع عشر. فقد اهتم والي الموصل العثماني "عمر لطفي الباشا" بهم إنما على أساس اعتقاد خاطئ يقوم على فكرة أنّ اليزيديين مسلمون انحرفوا عن جادة الصواب. قرر الوالي بسبب هذا الاعتقاد وفقاً للوردي، أنْ يبعث لليزيديين المقيمين في سنجار التي تقع في أطراف الموصل بمعلمين يعلمونهم القراءة والكتابة وأصول الدين. فما كان منهم إلا أنْ طردوا المعلمين، ورفضوا تعلم أصول الدين الإسلامي تمسكاً منهم بعقيدتهم الدينية. رد الوالي على ذلك التحرك بأنْ وجه كتيبة بقيادة ابنه للقيام بأعمال تأديبية ضدهم تسببت بحرق قراهم، ونهبهم، وضربهم، وقتل الكثير منهم. كان لسان علي الوردي في هذا المجال يقول ماذا لو كان هناك عالِم اجتماع أو باحث يساهم في نشر الثقافة والوعي الاجتماعي! ربما كنا شهدنا وضعاً مختلفاً، وتفادينا النكبة التي لحقت باليزيديين والمسيحيين وغيرهم من الجماعات الدينية، وحتى العرقية في البلاد آنذاك، وفيما بعد.
يذكر الوردي على صعيد آخر كيف أنّ حرب البلقان التي حدثت عام 1912 بين جيوش أوروبية من بلدان بلغاريا واليونان وصربيا والجبل الأسود من جهة، والجيش العثماني من جهة أخرى ألحقت هزيمة منكرة بالجنود الأتراك جعلتهم يهربون من ساحة المعركة، لا يلوون على شيء حتى أنهم لهول الرعب الذي انتابهم نتيجة الهزيمة صاروا يطلقون النار على بعضهم البعض. هذا ما تفعله الحروب، وهذا ما يقوله عالِم الاجتماع الذي يتعالى على البيانات الرسمية والإعلامية التي تجتهد لصنع صورة مزيفة، وغير صحيحة عما هو عليه الحدث، بحق. ونأخذ من كتاب "أسطورة الأدب الرفيع" للوردي رسالته للأدباء بأنْ لا ينشغلوا بالشكليات اللغوية، وألا يهتموا برصد الأخطاء النحوية، ويكفوا عن اتخاذ مواقف باردة ولا أبالية تجاه جمهور قراءهم ومتابعيهم. ويبدو أنّ هذا ما حدث بعد عقود على إطلاق رسالة الوردي إذ بدا أنّ هناك كتّاباً وروائيون انشغلوا بالرأي العام أكثر من انشغالهم بتصحيح أخطائهم اللغوية والنحوية مما يمكن أنْ يقوم به محرر جيد أو مصحح متقن لصنعته. لعل غزارة الإنتاج وتنوعه الذي طبع القصة والرواية العراقية هو ما يؤهلها للمراجعة والنظر من وجهة نظر اجتماعية.
يبدو من المناسب مراجعة موقفين نقديين فيما يتعلق بقضية الحرب في الرواية العراقية لا بد من التوقف عندهما قبل الاسترسال بتقديم الروايات ذات العلاقة. تمثل الرأي النقدي الأول بكتاب "في قصة الحرب: دراسة نقدية"، للناقد علي عبد الحسين، والذي صدر عام 1984 عن دار الشؤون الثقافية، وزارة الثقافة والإعلام في العراق. راجع الناقد الروايات العراقية المنشورة في الفترة التي سبقت الحرب العراقية الإيرانية، والروايات التي نشرت بعدها، وأثناءها. توصل علي عبد الحسين إلى فكرة مفادها أنّ مشاركة العراق في الحرب العربية ضد إسرائيل عام 1967 والاهتمام بالحرب الأهلية في لبنان أنتجت رواية تتأسى لحال الجنود والمراتب وتستذكر عويل الأمهات، ولهفة الزوجات، ولوعة الأخوات. كما كان لما عرف بالنكسة التي نجمت عن حرب 1967 أنْ عززت روح اليأس والقنوط، وعبرت عما أصاب العرب من مشاعر سوداوية. استعاد الكاتب العراقي كما يرى عبد الحسين حيويته بعد حرب 1973 التي تميزت بارتفاع ملموس في مستوى المعنويات نتيجة النصر الذي حققته الجيوش العربية آنذاك، وكسر صورة الجيش الذي لا يقهر. ولكن الناقد يعبر عن رأي مختلف فيما يتعلق بقراءته للرواية العراقية التي رصدت الحرب العراقية الإيرانية حيث اهتم الروائي العراقي بنظره بتسجيل صور البطولة والإقدام، والروح المعنوية العالية، وأظهر الطبيعة الإنسانية اللاعدوانية للمقاتل العراقي. استشهد الكاتب برأي للدكتور محسن الموسوي الذي كتب مقدمة لكتاب "قصص تحت لهيب النار"، وهو الكتاب الذي ضم مجموعة من القصص التي فازت بجائزة قادسية صدام آنذاك حيث أكد على ذات المعاني التي أوردها عبد الحسين في كتابه. كتب الموسوي عن هذه القصص "أنها أوجدت عند المتفحص حساً استوعبت من خلاله أجواء الحرب، ومشكلاتها، وأنها غاصت في روح الإنسان العراقي، في شموخه وتصديه، وفي تضحيته وفدائه، وفي حرقته ولوعته، وفي تفانيه وبساطته …". على وجه العموم، بدا علي عبد الحسين متماهياً مع توقعات النظام، ومتطلباته بالتطابق مع ما عبر عنه رسمياً. ظهر بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً الناقد أحمد حميد الذي عبر عن رأي مختلف في كتابه "مدونة العنف في العراق: بحث روائي لأربعة عقود دموية" (2023) والذي راجع فيه عدداً من الروايات التي صدرت منذ الستينيات حتى عام 2003. وجه الكاتب نقداً حاداً لكل من لم يستبشع الحرب العراقية الإيرانية، ويحكي عن الدمار الذي سببته على الصعيدين المادي والمعنوي، واصفاً الحرب بأنها "مقبرة الحياة". وأضاف حميد قائلاً إن أولئك الكتّاب الذين تماهوا مع النظام أنكروا الواقع وساهموا في التضليل على الحقيقة. يعبر حميد عن تعجبه لعدم اهتمام النقاد بروايات ظهرت آنذاك في ظل النظام السابق ممن أوردت الحقيقة كما في رواية "الحافات" (1985) لمحمود جنداري. وصف الروائي في هذه الرواية كيف قتل الآلاف من الجنود والمراتب وهم في خنادقهم "ممن أصبحوا طعاماً للضواري". يحكي الروائي شاكر الأنباري – حسب حميد - في روايته "ألواح" (1995) عن جندي هرب من العسكرية، ولكنه عاد بعد صدور قرار بالعفو عن الهاربين من الخدمة في الجيش لتلافي حكم الإعدام، بيد إنه يلقى مصيره المحتوم في واحدة من الهجمات المتبادلة بين الطرفين، العراقي والإيراني. ويعرض حميد لرواية "الحرب في حي الطرب" (1989) لنجم والي التي يحكي فيها عن ثلاثة جنود قرر أحدهم، "محمود"، أنْ يصيب نفسه بطلقة نارية يمكن أنْ تستخدم كذريعة للتسريح من الجيش باعتباره معوق حرب. وكانت تلك واحدة من الطرق الشائعة التي استخدمها العسكريون الراغبون بالتسريح من الخدمة هرباً من الحرب. ولكن الذي حدث في تلك الحالة أنْ أخطأ "محمود" فأصاب الشريان في فخذه مما أدى به إلى نزيف حاد لم يمهله طويلاً ليشهق شهقة طويلة، ويلفظ أنفاسه، كما عبر الروائي.
وفي رواية "ميسلون هادي" (2002) تقرر "جنان" أنْ تنتظر حبيبها، "جمال" الذي وقع في الأسر حتى يخرج منه. تنتهي الحرب ويحصل تبادل أسرى بين الطرفين المتحاربين – العراقي والإيراني - ويأتي الحبيب المنتظر بعد خمسة عشر عاماً. تذهب الحبيبة لملاقاته، ولكنها تصاب بخيبة أمل كبرى. لم تر "جنان" ذلك الشاب الوسيم الذي انتظرته كل تلك السنوات بل رأت كهلاً نحيفاً، أشيب الشعر لا يكاد يقوى على شيء. تتزوج "جنان" من "جمال" بسبب التعهد الأخلاقي الذي قطعته على نفسها بالوفاء له، ولكنها بعد مرور عام على زواجها منه تبوح لصديقة مقربة منها بأنها لم تتزوج "جمال"، بل تزوجت رجلاً آخر لا تعرفه، وأنها تشعر بغربة مطبقة عنه. ينقل حميد عن رواية "أصغي إلى رمادي" لحميد العقابي (2002) عن مجموعة جنود عراقيين يقررون الهرب بصورة جماعية إلى الجانب الإيراني ليكونوا أسرى، وبذلك يتخلصون من هول الحرب والرعب الذي تثيره في نفوسهم نتيجة تصور الموت، وترقبه، وانتظاره. تنجح خطتهم، ويقعون في الأسر ولكنهم سرعان ما يكتشفون أنّ الذل والمهانة في معسكر الأسر كان أشد مضاءً على نفوسهم مما كانوا يقاسونه وهم في جبهات القتال في الجانب العراقي مما يؤدي بهم إلى الانتحار الجماعي. أخيراً، يعرض حميد لرواية ناطق خلوصي "الخروج من الجحيم" (2001) التي تحكي عن حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت، وما أصاب بغداد جراءها من قصف بدا كالجحيم. حرب استمرت لثلاثة وأربعين يوماً تلقى فيها العراق حسب مصادر دولية موثوقة ما يقدر بـ 120-130 ألف طن من المتفجرات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

قراءة في تطورات التعليم العالي عام 2024 وتطلعات المستقبل

العمود الثامن: من يغني للمسؤول العراقي؟

العمود الثامن: طاعون الفشل

النَّزاريَّة.. تجربتها أمام "تحرير الشَّام"

العمود الثامن: هلوسات مرشح خسران!!

العمود الثامن: هلوسات مرشح خسران!!

 علي حسين ذات يوم من ايام الكوميديا العراقية المتواصلة، وقبل أكثر من عشر سنوات كنت ومعي عشرات الآلاف من العراقيين ننظر بتعجب ودهشة إلى اللافتات التي امتلأت بها شوارع العاصمة بغداد والعديد من...
علي حسين

الحرب في الرواية العراقية: وجهة نظر اجتماعية (1-2 )

لاهاي عبد الحسين كما يوجد "حديثو النعمة" من المتربحين من ظروف التغير الاقتصادي والسياسي، يمكن القول إنّ هناك "حديثو المهنة" ممن دخلوا ميدان العلم وحصلوا على عمل فيه بصيغة وظيفة حكومية أو غير حكومية...
لاهاي عبد الحسين

المسيحيون العراقيون..بين البيرونيّ وفقهاء التّزمت اليوم

رشيد الخيون أطل إمام مسجد الإمام أبي حنيفة ببغداد قائلاً: "إلى كلّ الآباء، وإلى كلّ الأُمهات، وإلى كلّ الأبناء، وإلى كلّ البنات… المسلم يتميز بشخصيته، عيد الميلاد، وعيد رأس السَّنة لأهلهما، لا يجوز لنَّا...
رشيد الخيون

ترامب يؤدي اليمين الدستورية وهو مدان: تداعيات غير مسبوقة على الديمقراطية الأمريكية

محمد علي الحيدري في سابقة تاريخية، سيؤدي الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب اليمين الدستورية كرئيس للولايات المتحدة رغم إدانته الجنائية. وهذا الحدث يثير تساؤلات عميقة حول مرونة النظام السياسي الأمريكي وقدرته على التعامل مع...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram