بغداد – تبارك عبد المجيد
تُغرق الأسواق المحلية بالأدوية المستوردة ذات الجودة الرديئة والأسعار الباهظة، في وقت تعاني فيه المستشفيات الحكومية من نقص حاد في المستلزمات الطبية، مما يُثقل كاهل المواطنين، وخاصة أصحاب الدخل المحدود.
ويُعزى تفاوت الأسعار ورداءة الأدوية إلى سيطرة مليشيات وجهات سياسية على استيراد الدواء، بالإضافة إلى هيمنتها على العديد من المجمعات الطبية والصيدليات. لذا، يرى مراقبون أن محاولات الحكومة لوضع تسعيرة موحدة للأدوية لم تحقق النجاح المطلوب.
ووفقاً لرئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، فأن العراق ينفق حوالي ثلاثة مليارات دولار سنويًا على استيراد الأدوية.
تدخلات سياسية!
يكشف عضو لجنة الصحة في البرلمان، باسم الغرابي، عن واقعٍ معقد يشوب ملف العلاجات والأدوية في العراق، حيث أكد وجود أزمة متفاقمة تتعلق بتفاوت وارتفاع أسعار الأدوية بشكل كبير ومستمر منذ أكثر من 12 إلى 13 عامًا. وأوضح أن هذه الأزمة تعود جذورها إلى ضعف الرقابة المؤسسية، وسيطرة الأحزاب الحاكمة على مفاصل وزارة الصحة وغيرها من الجهات ذات العلاقة.
أشار الغرابي خلال حديثه مع (المدى)، إلى أن "التسعيرة الدوائية كانت من المفترض أن تكون جزءًا أساسيًا من عملية ضبط سوق الأدوية، إلا أن غياب الإرادة الحقيقية لوضع تسعيرة موحدة منذ عام 2009 أسهم في تفاقم المشكلة". وأضاف أن أكثر من 60% من الأدوية المطروحة في السوق العراقي ما زالت غير مسعرة حتى الآن، ما يؤدي إلى اختلاف كبير في أسعارها بين الصيدليات.
ولفت إلى أن وضع تسعيرة موحدة يتطلب دورة حياة متكاملة لأي دواء، تشمل إقراره، فحصه، تصنيعه، واعتماده رسمياً، إلا أن هذه الدورة غالباً ما تكون غير مكتملة أو تُنفَّذ بشكل غير دقيق.
أوضح، أن "ملف العلاجات يشهد تدخلات من شخصيات وأحزاب سياسية نافذة، أدت إلى عرقلة تطبيق آليات تسعير عادلة"، مشيرًا إلى أن "شركات تم التعاقد معها لوضع ملصقات التسعير على الأدوية، لكن بأسعار مرتفعة جداً، الأمر الذي يعكس سوء التخطيط وعدم وجود رقابة فاعلة".
وفيما يتعلق بقانون الضمان الصحي، الذي شُرّع خلال الدورة الانتخابية الرابعة السابقة، أكد الغرابي أنه لم يُطبق بالشكل الأمثل حتى الآن. وقال إن "وزارة الصحة تعاقدت قبل شهرين مع شركة لإدارة هذا النظام، لكن العمل ما زال يسير ببطء شديد، ما يعكس حجم التحديات التي تواجه تطبيق القانون". وبيّن أن "الضمان الصحي يفترض أن يغطي جميع العلاجات بأسعار مناسبة، لكن العوائق البيروقراطية وضعف التنسيق بين الجهات المعنية حالا دون تحقيق هذا الهدف".
تحدث الغرابي أيضًا عن مشكلات تتعلق بفحص الأدوية، مشيراً إلى أن "وزارة الصحة ألغت الاعتراف بنتائج الفحص التي تُجرى في إقليم كردستان بسبب إشكالات تتعلق بالتنسيق بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم". وأوضح أن "هناك مراكز للفحص في البصرة وبغداد، لكنها لا تزال غير كافية لتغطية احتياجات السوق. وهناك أدوية تُباع في السوق العراقي دون أن تمر بعملية فحص دقيقة، وهو ما يشكل تهديدًا كبيرًا لصحة المواطنين".
كما تناول الغرابي ضعف الرقابة على الصيدليات، مما أتاح المجال لظهور ممارسات احتكارية ومخالفة للقوانين. وقال إن بعض الأطباء يتفقون مع صيدليات لبيع أدوية غير مفحوصة أو مهربة بأسعار مرتفعة، بينما تتعرض الصيدليات التي تحاول بيع الأدوية بأسعار مخفضة إلى ضغوط شديدة تصل إلى حد الإغلاق. وأوضح أن خمس صيدليات في محافظة الديوانية أُغلقت بحجة الإضرار بالتفاوت بين الصيدليات، لكن هذا القرار أثار احتجاجات شعبية أسفرت عن إعادة فتح بعضها لاحقاً.
أكد الغرابي على الحاجة إلى إصلاح جذري لقطاع الأدوية والعلاجات في العراق، مشيراً إلى أن غياب السياسات الواضحة أدى إلى تفاقم المشكلات. ودعا إلى إنشاء هيئة دوائية عراقية مستقلة تكون مسؤولة عن الإشراف على ملف الأدوية، بما يشمل التسعير والفحص والرقابة. كما دعا إلى التنسيق مع منظمات دولية وإقليمية لضمان اعتماد أدوية عالية الجودة بأسعار مناسبة، على غرار ما يحدث في دول الخليج.
وأشار إلى أن الإصلاح يتطلب برنامجاً حكومياً شاملاً وإجراءات مركزية من قبل الحكومة لضبط السوق الدوائي، وتفعيل التشريعات التي تعالج هذه المشكلات. ولفت إلى أن المواطن هو المتضرر الأكبر من هذا الواقع، حيث يدفع ثمن غياب الرقابة وارتفاع الأسعار.
واكد الغرابي على أهمية وجود سياسة دوائية واضحة المعالم ومتكاملة، تتسم بالشفافية والفعالية، لتخفيف العبء عن كاهل المواطنين وتحقيق العدالة في قطاع الأدوية والعلاجات. وأكد أن العراق بحاجة إلى رؤية وطنية موحدة، تنطلق من مصلحة المواطن وتضع حداً لممارسات الاحتكار والتلاعب التي تعيق تقدم هذا القطاع الحيوي.
يُمثل ارتفاع أسعار الأدوية في العراق معضلة كبيرة تثقل كاهل الأسر ذات الدخل المحدود، حيث يعاني المرضى من صعوبة تأمين احتياجاتهم الدوائية والمستلزمات الطبية الأساسية. تشير الصيدلانية استبرق الشمري، الناشطة في القطاع الصحي، إلى أن هذا الوضع يتفاقم بسبب النقص الحاد في الأدوية داخل المستشفيات الحكومية، مما يدفع المرضى إلى اللجوء للصيدليات الخاصة، حيث تواجههم أسعار مرتفعة تفوق قدراتهم المادية، ما يدفع البعض إلى العزوف عن شراء الأدوية تمامًا.
المشكلة ليست جديدة؛ إذ حاولت الحكومات المتعاقبة معالجة هذه الأزمة بوضع تسعيرة موحدة للأدوية على مستوى البلاد، لكن هذه الجهود لم تُثمر عن نتائج ملموسة. ويعود ذلك إلى مشكلات جوهرية يعاني منها القطاع الصحي في العراق، أبرزها الاعتماد شبه الكامل على استيراد الأدوية، تضيف الشمري.
تشير الشمري لـ(المدى)، إلى أن "شركة كيمياديا، التابعة لوزارة الصحة، تلعب دورًا رئيسيًا في استيراد وتوزيع الأدوية على المستشفيات والمذاخر، لكنها تواجه اتهامات متكررة بالفساد وسوء الإدارة. العملية الإدارية المرتبطة بتوفير الأدوية تتسم بالتعقيد وطول الإجراءات، بدءًا من إقرار نوع العلاج، مرورًا بفحص سلامته، وصولًا إلى طرحه في الأسواق. هذه البيروقراطية تؤدي إلى تأخر وصول الأدوية للمرضى، مما يزيد من حدة الأزمة". تتابع: "وعلى خلفية هذه الإشكاليات، يعاني السوق العراقي من انتشار أدوية مهربة وغير مفحوصة، غالبًا ما تكون منتهية الصلاحية أو غير معتمدة رسميًا. ويجد غياب الرقابة الصحية الصارمة بعض الصيدليات مضطرة إلى استيراد هذه الأدوية من مصادر غير موثوقة. ورغم خطورتها، تباع هذه الأدوية بأسعار مرتفعة، مستغلة حاجة المرضى الملحة". وتشدد على أن "هذا الوضع المتأزم يكشف عن خلل عميق في إدارة ملف الصحة، ويتطلب إصلاحات جذرية تضمن توفير الأدوية بأسعار معقولة وتحمي المواطنين من مخاطر الأدوية غير الآمنة". ويعاني السوق الدوائي في العراق من أزمة خانقة نتيجة غياب التسعير الموحد وهيمنة جهات متنفذة على عمليات الاستيراد والتوزيع. المواطن العراقي، وخاصة المرضى، هو الضحية الأكبر لهذه الفوضى التي تتفاقم يومًا بعد يوم، يقول ذلك الصيدلي الممارس زيد شبيب الذي أوضح أن "المحاولات الحكومية لتنظيم السوق من خلال فرض تسعيرة موحدة للأدوية لم تنجح بسبب التدخلات السياسية والمصالح الاقتصادية التي تُعرقل أي جهد جاد. نتيجة لذلك، تتفاوت أسعار الأدوية بشكل كبير؛ بعضها يُباع بأسعار مرتفعة جدًا لا يتحملها المواطن، في حين تُغرق السوق أدوية رديئة الجودة تُباع بأسعار زهيدة. هذا التفاوت يعكس غياب الرقابة وضعف التخطيط، حيث تُستورد كميات ضخمة من أدوية غير ضرورية، مما يؤدي إلى تخمة المعروض وإضرار الاقتصاد.
أشار شبيب لـ(المدى)، إلى أن "الميليشيات والجهات السياسية تتحكم في استيراد أنواع محددة من الأدوية وتحتكرها، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها بشكل كبير. في المقابل، تنتشر الأدوية المهربة وغير القانونية التي تُباع بأسعار زهيدة دون أي رقابة، مما يشكل خطرًا كبيرًا على صحة المرضى".
وتطرق شبيب إلى مهنة الصيدلة، التي أصبحت تجارة ربحية بحتة، حيث يسيطر عدد محدود من الصيادلة على السوق عبر شراء أو تأجير امتيازات صيدليات متعددة، مما يضعف الالتزام المهني ويزيد من استغلال السوق.
واقترح شبيب حلولًا شاملة للأزمة، تشمل تقنين الاستيراد ليقتصر على الشركات ذات الجودة الموثوقة، ودعم الصناعات الدوائية المحلية لتلبية جزء كبير من الاحتياجات، بالإضافة إلى ضبط الحدود لمكافحة تهريب الأدوية. كما شدد على ضرورة وضع تسعيرة عادلة للأدوية وتفعيل القوانين المنظمة للسوق، مع تعديلها لتتماشى مع الوضع الراهن.
وأكد، أن "حل هذه الأزمة يحتاج إلى إرادة سياسية قوية تُعلي مصلحة المواطن، داعيًا إلى إعطاء أولوية خاصة لتوفير الأدوية بأسعار معقولة للمرضى الذين يعانون من الأمراض المزمنة، الذين هم الأكثر تضررًا من استمرار هذه الفوضى".